عصام نعمة إسماعيل *
من المسلم به أن الدستور هو الوثيقة التي تنظم العلاقة بين السلطات في الدولة، وهو من هذه الزاوية وثيقة سياسية صيغت بشكل قواعد ملزمة تسمو على كل القواعد الأخرى في الدولة، وبسبب هذه الصفة السياسية كان من الخطأ إجراء أي فصل بين الواقع السياسي والنص الدستوري.
فالدستور لا يمكن فهمه بصورة صحيحة خارج إطار الواقع السياسي الذي يطبَّق فيه، وأي فصل بين السياسة والنص سيؤدي إما إلى تشويه النص وإما إلى تقزيم الواقع. ويكون الأمر أكثر دقةً عندما يكون النص بمضمونه مندرجات واقعية، كالنص الذي يتحدث عن عدم شرعية أي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
فكيف يمكن أن تصبح سلطة ما هي سلطة غير شرعية، وما المقصود بتعارض هذه السلطة مع مقتضيات العيش المشترك؟
إن تطبيق هذا النص الوارد في مقدمة الدستور يعني أن ينسحب مضمونه على كل النصوص الواردة في الدستور والمتعلقة بتنظيم السلطات بحيث يتوافر الانسجام بين المبادئ الواردة في مقدمة الدستور وكل النصوص الواردة في متن الدستور، إعمالاً لقاعدة: «تفسير النصوص بهدف تطبيقها معاً تطبيقاً متناغماً ومتآلفاً فيما بينها دون أي تعطيل أو اجتزاء لأي منها».
م.د. قرار رقم 3/2001 تاريخ 29/9/2001 الصادر في الطعن بالقانون رقم 296 تاريخ 2/4/2001.
وإذا رجعنا للواقع النصي، نلاحظ أن عبارة العيش المشترك وردت أربع مرات في وثيقة الوفاق الوطني، التي لها قيمة دستورية.
في المرة الأولى وردت الإشارة إلى العيش المشترك بصيغة عامة وضمن المبادئ العامة التي تقوم عليها الجمهورية، وهي النص المشار إليه أعلاه.
ثمَّ ورد ذكر العيش المشترك ضمن الأحكام المتعلقة باللامركزية الإدارية، فأوجبت الوثيقة إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يوفر الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.وضمن الإصلاحات المتعلقة بالسلطة القضائية، كان الهدف من إنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والمجلس الدستوري، هو توفير توافق عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية مع مسلمات العيش المشترك وحقوق اللبنانيين الأساسية المنصوص عليها في الدستور.
ثمَّ ألزمت الوثيقة الدستورية المشترع عند وضعه قانون الانتخاب بأن يراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين.
وفي التطبيق العملي، كان للمجلس الدستوري تفسير مميز لمعنى العيش المشترك، فجاء في حكمه أن: «الحرص على الوفاء للمبدأ الدستوري الوارد صراحة في الفقرة (ي) من مقدمة الدستور بأنه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، تعني أنه لا يستقل التمثيل الشعبي أي تمثيل، في ظل أوضاع تهدد صيغة هذا العيش التوافقية والميثاقية التي ارتضاها الشعب اللبناني صاحب السيادة ومصدر السلطات..».
م.د. قرار رقم 5/2002 تاريخ 4 تشرين الأول 2002 الصادر في الطعن المقدَّم من المرشحة ميرنا المر.
وإذا عمدنا إلى تكوين نظرية مبسطة في ضمانات العيش المشترك، كما هي واردة في النصوص السابقة، نلاحظ أن المجلس الدستوري هو الذي يضمن أن لا يصدر مجلس النواب أي قانون يناقض ميثاق العيش المشترك. وأما قانون الانتخاب فيضمن العيش المشترك تحت رقابة المجلس الدستوري،
والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء يضمن مقاضاة أي وزير يرتكب خرقاً للدستور أو يرتكب ما يناقض العيش المشترك،
ومجلس شورى الدولة يتولى إبطال أعمال السلطة التنفيذية إذا خالفت المبادئ الدستورية بما فيها المبدأ المتعلق بضمان العيش المشترك.
م.ش. قرار رقم 457 تاريخ 24 نيسان 2002، الدكتور مفيد أبو مراد / الدولة، م.ق.إ. 2005 ص 690.
فإذا كانت أعمال السلطات خاضعة للرقابة القضائية، وإذا كان هناك مجال لإعلان عدم شرعية أعمالها لضمان مقتضيات العيش المشترك، فما المقصود إذاً من الفقرة ي من مقدمة الدستور، وماذا تعني عبارة «لا شرعية لأي سلطة»؟
إن الالتزام بمبدأ «إعمال النص خير من إهماله» تعني أنه يجب إعطاء هذا النص كل مفاعيله، ويعني أنه ليس عمل السلطة بل السلطة عينها هي غير شرعية إذا خالفت مبادئ العيش المشترك.
وإذا طبقنا هذا النص على السلطة التنفيذية، نقول بأنه إذا أصبحت هذه السلطة في وضع مناقض لميثاق العيش المشترك، فإنها تفقد شرعيتها، وفقدان الشرعية يفرض على رئيس الجمهورية أن يصدر المرسوم باعتبار الحكومة مستقيلة سنداً للفقرة 5 من المادة 53 من الدستور.
فحالة عدم الشرعية، هي حالة مغايرة لحالة اعتبار الحكومة مستقيلة سنداً للمادة 69 من الدستور، ولا تعارض بين الحالتين، وتطبيق أحد النصين لا يحول دون تطبيق النص الآخر كما لا يتعارض أو يتناقض معه، فلكلٍ منهما مجاله الخاص. ولتأكيد وجهتنا نقول كحالة افتراضية، ماذا لو نالت الحكومة ثقة مجلس النواب ولكن برئيس حكومة من غير الطائفة السنية، هي حكومة دستورية من الناحية الشكلية المجردة، وأما إذا أدى هذا الأمر للتعارض مع مقتضيات العيش المشترك، فسيفقدها شرعيتها وستصبح حكومة غير شرعية وغير دستورية حتى ولو لم تنطبق عليها إحدى حالات الاستقالة المحددة في المادة 69 من الدستور. وإذا عدنا لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، نجد أن خروج وزراء طائفة كبيرة من الحكومة، لم يكن عملاً عابراً أو فجائياً، بل إن هذه الاستقالة جاءت لتعبِّر عن عدم رضى هؤلاء الوزراء عن مواقف الحكومة وتصرفاتها، فأصبحت هذه الحكومة بتصرفاتها في حالة مناقضة للعيش المشترك ومخالفة للفقرة أ من المادة 95 من الدستور التي تنص على أن تمثَّل الطوائف في صورة عادلة في تأليف الوزارة.
وأما من يريد المقارنة بحالة حكومة العماد ميشال عون التي استمرت بوزراء مسيحيين فقط، فنجيب بأن هذه الحكومة كانت قبل إقرار وثيقة الوفاق الوطني، ويومها لم يكن يوجد أي نص مكتوب يمنع من تأليف حكومة خلافاً لمقتضيات التوزيع الطائفي، والسلطة التنفيذية وقتها كانت بيد رئيس الجمهورية، وعلى رغم ذلك لم يعترف اللبنانيون بحكومة العماد عون وتألّفت في مواجهتها حكومة ثانية هي حكومة الرئيس سليم الحص.
وبانتفاء المقارنة، وبسبب تعطيل أدوات مراقبة الحفاظ على العيش المشترك: المجلس الأعلى والمجلس الدستوري، وبسبب إجراء انتخابات نيابية في أجواء مشحونة خلافاً لميثاق العيش المشترك، ثمَّ منع المجلس الدستوري من إجراء الرقابة على هذه العملية الانتخابية، ولو فعل لأبطل حكماً نيابة عدد كبير من النواب، ولقلب الموازين داخل المجلس النيابي.وبسبب انسحاب وزراء طائفة كاملة من الحكومة، وشعور أبناء طائفة ثانية بأنهم غير ممثلين فعلياً في هذه الحكومة، كان لهذين الانسحاب والشعور بالغبن أثر مباشر في مقتضيات العيش المشترك، بسبب الآثار السياسية والشعبية التي نتجت منهما. مع العلم أن هذه الآثار في مقتضيات العيش المشترك لا ترتبط بالوضع الطائفي، فانتخابات المتن الفرعية كانت ذات آثار سلبية على مقتضيات العيش المشترك على رغم أن الصراع الانتخابي كان في قضاء المتن صراعاً سياسياً بين فرقاء مسيحيين.
لذلك وحفاظاً على أحكام الدستور، وبخاصة المبادئ المتعلقة بالعيش المشترك، نقترح تأليف حكومة انتقالية مهمتها وضع قانون انتخاب جديد وإحياء المجلس الدستوري وتعديل قانون المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ثمَّ إجراء انتخابات نيابية مبكرة.
* خبير في الشؤون القانونية