وجيه قانصو *
لا يختلف جوهر الأزمة السياسية الحالية في لبنان عن أية أزمة سياسية سابقة، على رغم المخاوف المُضخَّمة والمواقف المُتشدِّدة، والتداخلات الأجنبية، والمستويات غير المسبوقة من الشحن الطائفي. فعناصر الأزمة واحدة في كل مرة، تتركز جميعها على محددات القرار السياسي في لبنان. هذه المحددات لا تقتصر على ضوابط القرار وآلياته القانونية، أو على نسبة حضور الطوائف في مؤسسات الحكم، بل تشمل أيضاً وضعية لبنان الدولية أو وضعية الدول تجاه لبنان، التي تتمثل بحالة التجاذب (أو الصراع) القديم بين غرب ثقافي وسياسي (وديني أحياناً) لم يستنفذ كل اندفاعات حداثته، وشرق عربي ــ إسلامي يتمترسُ حالياً وراء ذاكرته ويَـتَدرَّعُ بمقــــــــدّسه.
لم يحدث ولو مرة واحدة، أن حدد لبنان موقعه الدولي بنفسه، لأنه كان في الأساس وليد الشرط الدولي، ولم يحدث أن غيَّرت أزمة سياسية بنية النظام الداخلي أو حتى موازين قوى الداخل والخارج فيه. وعلى رغم وجود رجحان، من حين لآخر، لقوة أو طائفة محلية دون أخرى ولدولة إقليمية دون غيرها، إلا أن وضعية التوازن سرعان ما تستعيد نفسها في شكل طبيعي، لتضمن استمرارية الكيان واستقراره. هذا الكيان الذي يبدو أن وجوده لا يحتمل أية طموحات ثورية أو عقائدية أو نضالية أو جهادية كبرى، كما لا يحتمل سلطة آحادية، فكلاهما ــ طموحات الثورة والتفرد بالسلطة ــ يحمل سلوكاً واحداً، وهو الإقصاء وبالتالي الاستبداد، ويؤدي كلاهما أيضاً إلى الانزياح عن نقطة التوازن الحساسة التي قد تطيح الكيان اللبناني نفسه.
لذلك كانت التسويات هي أصل المواثيق (والوفاقات) الوطنية في لبنان. ومنطق التسوية يعني استحالة (عملية) حسم الأمور لمصلحة أية جهة أو رؤية أو مشروع، أي لا توجد انتصارات ولا هزائم محلية. ويعني، أيضاً، أن كل الحلول المتفق عليها، لا تنزع فتيل الأزمات السياسية، بقدر ما تُخفِض سقف المطالب والتطلعات المتعددة لتبعد التناقضات عن حافة الهاوية أو الانفجار. ويعني أيضاً ارتهان قواعد العمل السياسي وأصول ممارسة الحكم للانتماء الطائفي. هذا الانتماء الذي انتقل مع الزمن من انتماء ديني يوفر مبادئ علاقة مع الله إلى انتماء عُصبوي مُغلق، يحصر «النحن» و«الأنا» الوجودية في مهد طفولتها الأول، ويهمِّش التضامنات فوق الطائفية، ويغيّب الرأي العام الذي يحاسب ويراقب، ويقوّي هشاشة الدولة ويجعلها دائماً عرضة للتفكك لأنها مركّبة من عناصر مناقضة لماهيتها وحقيقتها. ويعني أيضاً، أي منطق التسوية، بقاء جميع اللاعبين الدوليين داخل ساحة لبنان السياسية، بحيث لا يكون غياب دولة خارجية ما ناتجاً من تحوّل سياسي داخل لبنان، بل ناتجاً من عجز تلك الدولة عن الاستمرار في الحضور والتأثير بفعالية وقوة.
من هنا، لا تختلف الأزمة الحالية عن سابقاتها، سوى أن القوى المتعارضة، الموالاة والمعارضة أو «الأكثرية» و«الأقلية»، صارت تستسيغ أو تهوى اللعب على حافة الهاوية، فتشحن وتُعبّئ وتستعرض وتحشد وتُؤدلج وتُحرِّض، لتحوّل مزاج عامة الناس إلى قنبلة موقوتة. على رغم علم الجميع أن سقف التغيير لا يتعدى الرجوع بالأمور إلى نقـطة توازن تبقي الجميع، محليين وخارجيين، داخل اللعبة.
وهنا نسأل، لماذا هذا الحجم من التصلب والتصعيد المتبادل؟ على رغم أن الحلول المتوقعة للأزمة متواضعة، فلا الحكومة ستسقط لأن هذا لا يتحقق إلا بإجماع وطني وهو مفقود حالياً، ولا يمكن الحكومة أن تدير شؤون البلاد بحجة أنها حكومة الأكثرية، لأنه لا معنى لأكثرية أو أقلية في دولة الطوائف ووطنها.
ولماذا يأخذ التوتير شكله الأقصى؟ مع العلم أن حصول المعارضة على الثلث المعطِّل أو المشارِك أو الضامِن، لن يحل أصل الأزمة، ولن يَحُول دون تجددها لاحقاً. بل قد يؤدي ذلك، مع مناخات انعدام الثقة المتبادلة، إلى تعطيل حركة الحكومة في مواجهة الاستحقاقات المصيرية، وبالتالي تعطيل البلد بأسره. ومع العلم أيضاً أن إصرار قوى 14 آذار على استمرار الحكومة في هذا الشكل، هو تعطيل للحياة السياسية وتعميق للأزمة الحالية، وإشعار طائفة كبيرة وربما أكثر، بأنها مستثناة من المشاركة الحقيقية في القرار السياسي.
ولماذا تطول الأزمة إلى الحد الذي يُرهق فيه اقتصاد البلد وأعصاب الناس، وتُشل المرافق العامة والخاصة، ويدفع الشباب إلى الهجرة، وتتعطل لغة العقل والحوار لتسود مكانها لغة الغرائز والأحقاد؟ ألا يعني هذا أن البلد يفتقد فعلاً إلى تلك الشخصيات التاريخية، التي تُقدِّم العامَّ الوطني على الخاص الطائفي أو الحزبي أو العائلي، والتي ترى الأمور بعواقبها وخواتمها لا بمكتسباتها الآنية؟ ويعني أيضاً أننا نفتقد إلى الأطر الجامعة، ذات الرؤى الوطنية والبرامج الشاملة والمركبة، التي تعزّز العصبية الوطنية وتخلق فيها الطاقة على منافسة، بل كسر، العصبيات الطائفية المُقفلة والمُستحكِمة؟
لعل السؤال الأهم هو: لماذا تغيب، بل يتحاشى الجميع إثارة، الأسئلة الحقيقية التي تحثُّنا على الولوج في مجالات سياسية وثقافية جديدة؟ ولماذا لا نبحث مُوَلِّدات الأزمات كلها، بما فيها الأزمة الراهنة، بدلاً من بحث حلول شكلية تناسب القوى الراهنة، ولكنها لا تناسب الوطن والمجتمع وفكرة الدولة الحديثة؟
وليس بحث أسباب الأزمات بحثاً نظرياً، نجهد فيه بلا جدوى تَلَمُّسَ جوهر الأسباب الذي لا سبب وراءه، بل هو بحث عملي بامتياز، يتعلق بكيفية خلق مدى لنشاط حر وطوعي وغير ضاغط، يؤهل الفرد لصنع مصيره ويمكّن الجماعات من التحكم بظروفها وأوضاعها. بعبارة أخرى، إنه بحث كيفية صنع شروط وجودنا بأبعاده السياسية والثقافية وحتى الدينية وابتكارها، بدلاً من أن نكون، كما نحن الآن، نتاجاً آلياً وتلقائياً لشروط قهرية وظروف لاإرادية (بما في ذلك ظروف المولد)، بحيث يأخذ سلوكنا الراهن طابعاً غرائزياً ينحصر في هاجس البقاء لا هاجس إثبات الذات.
طبعاً، ليس المطلوب الدخول في معركة الصراع بين الإرادات، ولكن المطلوب وضع قواعد جديدة أكثر فعالية وسرعة في تنظيم التنافس بين القوى. وليس المطلوب الانقلاب على التوازن القائم في لبنان، ولكن المطلوب إعادة إنتاجه، بأن نخلق مساحات رحبة لأطر التضامن الحزبي الجامع والرؤى الوطنية الشاملة والتمثيل اللاطائفي، تكون جميعها مستقلة عن المحدد الطائفي ومتحررة منه في آن. وهذا يجعل أولوية المطالب السياسية حالياً تتمثل في العمل على تحقيق قانون انتخاب يحدّ من التأثير الطوائفي ولا يلغيه، وعلى تشريع قانون أحزاب يكون التنوع الطائفي فيه هو الأصل والتجانس الطائفي هو الاستثناء والنادر، وعلى تفعيل فكرة مجلسي النواب والشيوخ، كخطوة ممهدة لتحقيق تضامن وانتماء وطنيين عامين يوسّعان من أفق الحياة السياسية، ولتأكيد وضع رقابة صارمة على المال السياسي والعقائدي، المُنْهَمِرُ علينا من دول لدودة وودودة، والذي همّش عقلاء البلد وشرفاءه وكفاءاته، وعزَّزَ روحَ الرياء والتملّق، وعطَّل المجتمع من حركيته في إنتاج قوى حقيقية تعكس قدراته الذاتية وتتناسب مع طبيعة تكوينه.
المَدار في ذلك كله هو في توسيع مساحة الرأي العام المتمثل بقوى المجتمع المدني والمتحرر من الضغط الطائفي والارتهان المالي لأية جهة أو قوة، وفي انبثاق قوى سياسية جديدة، أو في إعادة إنتاج القوى الراهنة لذاتها، تجسّد بثقافتها وتكوينها الداخليين صورة الحياة المأمُولَة والمَرجُوَّة.
المطلوب ولادة جديدة لخلاص جديد.
* استاذ في الجامعة اللبنانية