عمر كوش *
لا يكاد يمر يوم من أيامنا هذه إلا وتقع مجزرة جديدة في العراق، حتى يمكن القول بأن نهر الدم العراقي لن يتوقف عن التدفق بغزارة شديدة، بعدما وصلت الأمور إلى درجة بالغة في التعقيد، إذ على الرغم من هزيمة الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفية للكونغرس الأميركي، وهزيمة المشروع الأميركي في العراق، ووعود نوري المالكي الفارغة، لا يستطيع أحد التنبؤ أو معرفة المآل الذي ستؤول إليه الأمور في العراق، بعدما حوّله الغزو الأميركي إلى بلد محتل، مخرّب ومدمّر، تتقاذفه بنادق الاحتلال وفرق الموت وطاحونة الإرهاب وعمليات المقاومة، ويخيّم عليه شبح الحرب الأهلية الشاملة، وخاصة أن أعمال القتل والاغتيال تحصد، في كل يوم، أرواح المئات من العراقيين.
لقد بلغ القتل درجة من الشراسة والهمجية تفوق التصوّر البشري، إذ تفصل الرؤوس عن أجساد أصحابها، وتوضع في صناديق المعلبات، ثم ترمى على أرصفة الشوارع، أو على الطرق وفي الأنهار. إنها وحشية قاسية وصاعقة، وصلت إلى حدّ اعتبار رؤوس البشر مثل حبّات الموز التي تعلب في الصناديق، وباتت الفوضى الدموية تعبث بحاضر العراق، حتى أصاب الذعر والخوف العراقيين المحاصرين في أحيائهم المقسّمة طائفياً، فيما تحوّل قسم لا يستهان به منهم إلى نازحين ومهجرين هرباً من طاحونة قتل لا تهدأ.
ويشهد تقرير مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة الذي صدر بتاريخ 22/11/2006 على فظاعة المشهد العراقي، إذ وفقاً لهذا التقرير، وصلت حصيلة القتلى العراقيين في تشرين الأول الماضي إلى 3709 قتلى، بمعدل 120 قتيلاً في اليوم، وبزيادة كبيرة على حصيلة 3345 قتيلاً في شهر أيلول السابق. وقُتل كذلك 7054 شخصاً خلال شهري أيلول وتشرين الأول الماضيين، مقارنة بـ6599 شخصاً خلال شهري تموز وآب الماضيين من السنة الجارية. ويلاحظ التقرير أن أكثر من 70 في المئة من هؤلاء القتلى قضوا في العاصمة بغداد، التي باتت تحتوي اليوم ما يُعرف بـ«خط التصدع» في العنف الدائر بين الشيعة والسنة، حيث انقسمت الأحياء على أسس طائفية، وهو أمر لم تعرفه هذه العاصمة التاريخية من قبل.
وتظهر القراءة المتأنية للمشهد العراقي حجم الدمار الذي لحق بهذا البلد، على مختلف الصعد، وخصوصاً السياسية والأمنية، والأخطر دخوله في نفق التفتيت والتقسيم، دولةً وأرضاً وشعباً، فيما تزداد حدة السجال في كل مكان في الحرب الأهلية المسكوت عنها، والتي تسبب بها المحتل الأميركي والبريطاني وحساسيات التعصب المذهبي الأعمى. والأخطر هو التساؤلات التي أثارها التقرير في شأن الولاءات الطائفية في صفوف القوات العراقية المدربة أميركياً، والبالغ تعدادها 300 ألف عنصر، إذ جاء فيه أن «قوات الشرطة العراقية تواجه اتهامات متزايدة بممارسة الخطف والقتل والتعذيب والرشوة»، وحتى «الابتزاز والسرقة»، وهناك تقارير متزايدة عن ميليشيات وفرق موت تعمل من داخل فرق الشرطة أو بالتنسيق معها.
وفشلت حكومة نوري المالكي فشلاً ذريعاً في توفير الأمن، نظراً إلى أن أجهزة الأمن التي تشكلت من قبل، تحولت إلى أذرع طائفية للتصفية والتهجير، وفَقَدَ الإنسان العراقي الأمن والأمان في المأكل والمشرب والنوم، وفي مختلف تفاصيل حياته اليومية، حيث المجازر المتنقلة تحصد في شكل مدروس ومبرمج العديد من الأرواح، ويتزايد الفرز الطائفي السكاني بازدياد حركة النزوح والهجرة القسرية، إنذاراً بالتوغل أكثر في الحرب الأهلية الشاملة، وإيذاناً بالعجز عن إقامة الدولة الموحدة الحاضنة والراعية لجميع العراقيين.
ويلقي الوضع الأمني في العراق المحتل بظلاله الثقيلة، لكونه يكشف عن هول المحنة العراقية، إذ على الرغم من تضاعف عديد رجال الأمن والجيش والشرطة، تزداد المجازر الدموية في شكل لافت، وتبرز ظواهر الفرق الانتحارية، و«فرق الموت»، وقطع الرؤوس، والمقابر الجماعية الحديثة، ويتراجع مستوى الأداء الحكومي في توفير الخدمات ليصل إلى حدوده الدنيا في مجال توفير الكهرباء والمشتقات النفطية والمواد الغذائية، فيما الإفقار المتزايد يطاول فئات واسعة من العراقيين، ويــــــــــــتزايد معه البؤس والعوز والفاقة، لدى فئة متزايدة الاتساع من العراقيين الذين كانوا يتغنون ذات يوم ببلدهم، صاحب الثروات الطبيعية والزراعية والنفطية.
وبحسب التقرير، زاد الوضع الأمني المتدهور من حجم الفقر، وتسبب في حركة هجرة ونزوح «لا نظير لها»، شملت 418 ألف نازح منذ شباط الماضي، و1.6 مليون مهاجر منذ الغزو الأميركي عام 2003. إضافة إلى أن هنالك 100 ألف عراقي يهاجر شهرياً إلى سوريا والأردن. ويشير التقرير إلى أن بين هؤلاء نسبة مهمة من الأطباء والمحامين والمعلمين والصحافيين، أي طبقة «الأدمغة» التي ازداد استهدافها من ميليشيات القتل في الفترة الأخيرة، الأمر الذي يطرح التساؤل عن الهدف من عمليات تفريغ العراق من كوادره العلمية والتقنية والمهنية، من خلال اغتيال العلماء والأكاديميين والأطباء وأصحاب الخبرات المميزة وأساتذة المدارس وحتى التلاميذ.
ويلقي التقرير ظلالاً من الشك على التأكيدات الأخيرة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي ما زال يزعم أن في وسع حكومته تجهيز القوات العراقية لتسلم زمام الأمن في البلاد في غضون ستة أشهر، فيما التقرير الأممي ندد بالمستوى المتدني لهذه القوات، وكشف تورطها في القتل والإرهاب، إلى جانب فساد أجهزتها.
يضاف إلى كل ما سبق النيات والمساعي الرامية إلى تفتيت العراق وتقسيمه، بعدما ظهرت إلى السطح مختلف العصبيات الطائفية والإثنية لتعبث في تركيبة العراق ومستقبله استناداً إلى نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وباتت قوى سياسية شيعية عديدة تطالب بفيديرالية تقسم العراق إلى ثلاثة أقاليم، تأكيداً منها على نزوع انفصالي تضمن به السيطرة على ما تسميه إقليم الجنوب. فضلاً عن أن الأكراد في الشمال لا ينقصهم سوى الظرف الدولي والإقليمي لإعلان انفصالهم عن العراق. ومردّ ذلك هو أن مخططي الحرب على العراق ومنفذيها لم يكترثوا لتثبيت وحدة أرض العراق وشعبه، بل عملوا على تكريس بذور التفتيت والتقسيم في ثنايا الدستور الذي أشرفوا عليه، وفرضه العراقيون الجدد بالوكالة عنهم.
لقد بات السؤال الذي يُطرح بمرارة هو: من المسؤول عن فظاعة المشهد العراقي؟ ولماذا تزداد مأساة العراقيين حدّة في ظل الاحتلال الأميركي إلى الحدّ الذي يُذكّر بالمآسي الإغريقية القديمة؟
* كاتب سوري