توفيق المديني *
لم تعِ الحركات القومية أن المسألة القومية، مسألة الهوية ووعي الذات أي الوعي القومي، في وضع الأمة العربية التي تعاني التأخر التاريخي، والتجزئة بوصفها محصلة هذا التأخر التاريخي للشعب العربي، والأوضاع الإمبريالية الناجمة منه، وتعبيراً عن القانون الموضوعي لعمل الإمبريالية في العالم العربي، مرتبطة أشد الارتباط بإنجاز الثورة الديموقراطية، التي تختلف عن الثورات الديموقراطية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتختلف عن ثورات الاتحاد السوفيتي والصين وفيتنام الخ. وهي تختلف عن الثورات الأوروبية، لأن الثورات الأوروبية قادتها البورجوازية الصاعدة، وارتبطت بظهور الرأسمالية وتطورها في مراكز النظام العالمي وأطــــــرافه على حد سواء.
والبورجوازية في عالمنا العربي ليست طبقة منتجة وبالتالي ليست طبقة قائدة، ولكنها جزء من عملية أو سيرورة العولمة الرأسمالية الجارية والمتسارعة، التي كانت تعني في الماضي أوربة العالم، وتعني اليوم في ظل نظام القطب الواحد أمركته، أي جعله أميركياً من خلال عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام.
ولذلك، فإن البورجوازية العربية التي ارتبطت مباشرة بالاستراتيجيا الشاملة للإمبريالية والنظام الرأسمالي العالمي، وفق معادلات الجغرافيا السياسية الخاصة بكل قطر، لم تعتبر أن برنامج الثورة القومية الديموقراطية في تعارضاته المحكومة لقانون الوحدة ولدولة السوق القومية، هو برنامجها، فبنت الدولة القطرية المحكومة لقانون التجزئة والتبعية، والمتجاوبة مع التقسيم الإمبريالي للعمل كما أقرته اتفاقية سايكس بيكو، بين الإمبرياليات المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، حيث شكلت اتفاقية سايكس بيكو هذه ولا تزال الأساس الموضوعي الاجتماعي ــ الاقتصادي ــ السياسي للمأزق العربي الراهن، مأزق غياب الشروط المادية لدولة السوق القومية البورجوازية المدنية المعاصرة.
وقد عمّق هذا المأزق العربي وواكبه تأسيس الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية، ودخوله على خط تقسيم العمل الدولي الإمبريالي في المنطقة، ودوره كركيزة للإمبريالية المنتصرة ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية. فالمشروع الصهيوني هو ثنائي التجزئة داخل معادلة التبعية والتأخر، وتحويل العرب إلـى كيانية وجغرافيا لا حول لها ولا قوة داخل تاريخ العولمة الرأسمالية مباشرة، أو في البعد الإقليمي الصهيوني لهذا التاريخ. والمشروع الصهيوني فوق كل ذلك شكل ولا يزال الأساس الموضوعي الثاني للمأزق العربي الراهن.
وأخطر ما تعانيه الأمة العربية الآن هو تلازم عمليتي التهميش والتفتيت وتكاملهما، وهما من أبرز خصائص النظام الدولي الجديد، نظام الهيمنة الأميركية التامة، الذي قام، بعدما حققت الولايات المتحدة الأميركية انتصاراً في حربها المثلثة الأبعاد على أوروبا الغربية، وعلى حركات التحرر القومي، وعلى المعسكر الاشتراكي.
وهكذا، فإن المشروع القومي العربي الذي هو خيار الأمة التاريخي الاستراتيجي، لم يتأسس على مفهوم الديموقراطية بكل منطوياتها المعرفية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، الديموقراطية التي تتبدى في احترام حقوق الإنسان والمواطن، وفي إنجاز تحرير الوطن كله من الاحتلال، وكل أشكال التبعية المباشرة وغير المباشرة، لأن العالم العربي لا يستطيع أن يقرر مصيره من دون الاستقلال الكامل والتحرر الشامل. والديموقراطية تعني أيضاً تصفية حدود التجزئة القطرية، على عكس ما تقوم به الإمبريالية الأميركية وربيبتها الصهيونية من محاولات حثيثة ومستمرة عبر المشروع الشرق أوسطي الجديد، والتطبيع، وتفجير الصراعات الطائفية والإثنية، لتحويل التقسيم الكياني للأقطار العربية إلـى مشاريع أمم ــ كيانية أيضاً، في ظل هزيمة المشروع القومي العربي.
لقد حَمَّل الفكر القومي التقليدي الاستعمار ثم الإمبريالية والصهيونية مسؤولية هزيمة المشروع القومي العربي. وهذا نصف الحقيقة، فالمتتبّع لتاريخ الصراع في / وعلى المنطقة العربية يلحظ بسهولة معنى التركيز العربي الإمبريالي الصهيوني الدائم على ضرب الحلقات القومية، كلما فكرت في تحويل المشروع القومي إلـى واقع حي (ضرب النهضة العربية الأولى في عهد محمد علي، والنهضة العربية الثانية في عهد عبد الناصر، وضرب سوريا والعراق، واستنزاف الجزائر).
لكن النصف الثاني من الحقيقة يكمن في أن الحركات القومية لم تطرح المسألة القومية جزءاً أساسياً من الثورة القومية الديموقراطية المعادية للاستعمار والإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، ولهذا فقد أنتجت نموذج الدولة البوليسية القطرية، العاجزة بنيوياً عن توفير الحد الأدنى من شروط الثورة القومية الديموقراطية (التنمية، السوق القومي، الديموقراطية، استكمال السيادة القومية على الأرض القومية)، والتي أضحت مظهراً من مظاهر التكيف مع منطق التوسع الرأسمالي وشروط التبعية، أي مظهراً من مظاهر نقص استقلال الأمة، واستلاب حريتها، وقدرتها على السيطرة على مواردها وثرواتها ومقدّراتها، والتي استمدت شرعيتها وحراكها الاجتماعي من الضرورات والاستحقاقات الخارجية، سواء في بعدها السوفياتي أو الأميركي.
إن مفهوم الأمة لا ينفصل في الأساس والمبدأ عن مفهوم المجتمع المدني، باعتباره شكل التوسط بين الأمة التي تتجسد واقعياً وعيانياً على قاعدة التعدد والاختلاف والتعارض، والأفراد والجماعات والفئات والطبقات الاجتماعية، والدولة القومية الديموقراطية التي تفسح في المجال لنمو سيرورة المجتمع المدني الحديث، الذي تتحقق فيه الهوية القومية مع حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، والتي تعبّر سياسياً وحقوقياً عن الكل الاجتماعي، أي عن الشأن العام المشترك بين جميع المواطنين، وعن سيادة الشعب، وتتطابق هويتها مع هوية المجتمع، وتجسد خطاً عدائياً جذرياً للإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني.
الوعي القومي لدى الحركات القومية العربية ما زال متخلّفاً، ولم يرتق بعد إلـى مستوى نقد الفكر القومي التقليدي، الذي يمتلك تصوراً ميتافيزيقياً للأمة، بوصفها جوهراً خالداً يتجلى في «دولة قومية» مصممة قبلياً (مسبقة الصنع)، وهو تصور مع تأويل محافظ ورجعي للفكرة الهيغلية، فكانت الدولة «القطرية» الحاضرة هي الشكل السياسي لوجود الأمة الغائبة. ولم تتمكن هذه الدولة القطرية التابعة والكمبرادورية، منذ قيامها حتى الآن من «خلق» الأمة، بل على العكس من ذلك نجحت في منع الأمة من إقامة وحدتها وبناء دولتها الديموقراطية، لأن الدولة القطرية قامت، ولا تزال قائمة على أساس تغييب الشعب وتهميشه، وتحوّلها إلـى سلطة غاشمة استبدادية منفصلة عن المجتمع ومسيطرة عليه.
وفضلاً عن ذلك، فقد كانت الحركات القومية العربية متخلفة عن الوعي بأهمية المسألة الاجتماعية وعمق ارتباطها بالمسألة الديموقراطية، وهوّنت من شأن هذه المسألة، وفصلت المسألة الديموقراطية عن المسألة الاجتماعية، والمسألة القومية، والوحدة العربية. ولم تع هذه الحركات القومية أن المسألة الديموقراطية تؤسس لحل تاريخي للمسألة الاجتماعية، وللوحدة العربية في آن معاً. ولم تدرك هذه الحركات القومية أيضاً أن التضحية بالمسألة الديموقراطية، والمسألة الاجتماعية في سبيل الوحدة العربية، هي تضحية بها جميعاً.
* كاتب تونسي