يحيى فكري *
بدأ الأمر بتصريح على لسان فاروق حسني وزير الثقافة المصري يعرب فيه عن رأيه في مسألة الحجاب، مشيراً إلى أنه مظهر من مظاهر التخلف والعودة إلى الوراء. وهكذا قامت الدنيا ولم تقعد، وانطلقت موجة من الجدل والاحتجاج في مصر لا تزال محتدمة حتى كتابة هذه السطور. وبعيداً عن الطريقة التي أعلن بها الوزير عن موقفه، وإذا ما كان مجرد رأي عبر عنه في جلسة خاصة، أم أنه تصريح أدلى به في حوار صحفي، وبعيداً أيضاً عما كان يقصده منه، اللافت أن الموجة المثارة حملت مفارقات عدة تكشف في مجملها حجم التناقض والتعقيد الحادث في الساحة السياسية المصرية اليوم.
المفارقة الأولى تظهر في موقف الحزب الوطني الحاكم ونوابه في البرلمان الذين شنوا هجوماً حاداً على الوزير في تنسيق علني ــ لأول مرة ــ مع نواب المعارضة الإخوانية. ولم يقتصر الهجوم على الوزير فقط، بل تجاوزه إلى الهجوم على المثقفين العلمانيين الذين أيدوا موقف الوزير، وأعلنوا عن تضامنهم معه. شارك في الهجوم بعض من أقطاب النظام، كفتحي سرور رئيس مجلس الشعب الذي انتقد غياب الوزير عن المجلس، واحتكار البعض لاسم «المثقفين» ــ هؤلاء الذين وقعوا بيانات التضامن مع الوزيرــ باعتبار أننا جميعاً مثقفون. وشارك أيضاً في الهجوم كمال الشاذلي الوزير السابق والنائب المخضرم، وزكريا عزمي النائب ورئيس الديوان الجمهوري وصاحب الصلة الوثيقة بمبارك، وكلاهما هاجما تصريحات فاروق حسني بحدة شديدة.
المفارقة هنا تكمن في أن فاروق حسني هو أحد رجال عهد مبارك المخضرمين، الذي ظل متربعاً على عرش وزارة الثقافة لما يقرب من سبعة عشر عاماً. ليس هذا فحسب، بل أيضاً هو الرجل الذي حظي دائماً بدعم النظام في مواجهة المثقفين وعامة الجمهور في العديد من الأزمات، كان آخرها حريق قصر ثقافة بني سويف، الذي راح ضحيته بعض من ألمع شباب المسرحيين بسبب الفساد والإهمال المستشري في وزارة الثقافة.
لماذا يتخلى النظام المصري إذن عن دعمه لفاروق حسني اليوم، ويخلق ضجة أكبر بكثير من حجم الحدث؟ هناك جانب بالطبع يتعلق بمضمون التصريحات وعدم استعداد النظام الآن لمجابهة غضب شعبي يتوقعه، فضلاً عن الطابع المحافظ للنظام نفسه وعدم تسامحه مع حرية الرأي عموماً، وخصوصاً عندما تمس الثوابت الأخلاقية والاجتماعية. إلا أن هذا الهجوم من النظام على أحد أقطابه يحمل جانباً آخر ذا دلالة، حيث يعكس عملية الإحلال والتجديد الجارية اليوم داخل صفوف الحكم في مصر. فخطة توريث الحكم لجمال مبارك تسير على قدم وساق، وتنفذ على مستويات مختلفة كالترويج الإعلامي للوريث، والعمل على تعديل الدستور. وأحد أهم عناصر الخطة هو تصفية الوجوه القديمة ومراكز النفوذ المرتبطة بها، والإحلال محلها بوجوه ومراكز نفوذ جديدة موالية لجمال مبارك ومشروع التوريث. ويبدو أن الهجوم على فاروق حسني هو جزء من عملية الإحلال والتجديد هذه.
المفارقة الثانية تتعلق بموقف المثقفين العلمانيين في مصر الذين بادروا بإعلان تضامن واسع مع الوزير والهجوم على نقاده، وحملت توقيعات التضامن أسماء لامعة كيوسف شاهين والسيد ياسين وجابر عصفور وغيرهم. ذلك الموقف انطلق من الرؤية التنويرية نفسها السائدة في أوساطهم منذ سنوات، التي ترى أن هناك مداً إسلامياً «ظلامياً» في المجتمع هو العدو الأول للإصلاح والديموقراطية، لا بد من مواجهته قبل أي شيء عبر إشاعة الأفكار التنويرية والتصدي للقوى المحركة له. هذا المنطلق دفعهم إلى اعتبار النظام حليفاً مؤقتاً رغم ــ وبسبب ــ ديكتاتوريته الغاشمة في مواجهة الإسلاميين، وصار عدوهم الرئيسي هو الإخوان المسلمين رغم نضال الإخوان وتضحياتهم غير المنكورة من أجل الإصلاح الديموقراطي في مصر.
النضال للنهاية دفاعاً عن حرية الرأي هو أمر مفروغ منه بلا شك، وضمانة هذا الحق للجميع ــ بمن فيهم وزير الثقافة ــ هو إحدى أولويات الإصلاح في مصر. لكن ليست هذه هي القضية، فرؤية المثقفين العلمانيين تنتزع الأمر من سياقه بتجاهلها أن المد الإسلامي يحدث في ظرف هجوم استعماري على شعوبنا يعتبر المقاومة الإسلامية إرهاباً، ونظم استبدادية توجه طغيانها إلى الحركات الإسلامية لأنها الأكثر شعبية، وجماهير فقيرة مضطهدة تبحث عن ملاذ من الفقر والظلم ولا تجد أمامها سوى الإسلام السياسي بديلاً من الاستعمار والاستبداد والفساد. لقد تخلى المثقفون العلمانيون عن التحليل الطبقي محدداً للمتاريس بين العدو والحليف، وفسروا الظواهر الاجتماعية بمنطلقاتها الذهنية وليس من واقعها المادي، وانحازوا في النهاية ضد الجماهير الفقيرة لأنها تتبنى أفكاراً «رجعية»! تصريحات فاروق حسني نفسها تكشف عن منظور استشراقي، فلا سبب موضوعياً لاعتبار الحجاب مظهراً للتخلف سوى القياس على النظرة الاستعمارية التي تفترض وجود شرق متخلف وغرب متقدم.
المفارقة الثالثة حملها موقف الإخوان المسلمين. فعلى مدار السنوات الماضية ركزت دعاية الإخوان على تبنيهم لمنظور ليبرالي بصدد مجمل الأمور، وعبر محاولاتهم الدؤوبة لبناء تحالفات سياسية مع القوى اليسارية والعلمانية للتصدي للاستبداد أكدوا مراراً في تصريحات وخطب علنية قناعتهم الكاملة بالديموقراطية وحرية الرأي، بما في ذلك الحق في الإلحاد. وبعد نجاح كتلة كبيرة منهم في الانتخابات الأخيرة أعلنوا أن معركتهم هي الإصلاح السياسي وأنهم لن ينجرفوا إلى المعارك الأخلاقية ضد الآراء وصور التعبير التي تمس الثوابت الإسلامية من وجهة نظرهم. لكنهم فشلوا في أول اختبار، وإذا بهم يشعلون النار لمجرد أن أحد الوزراء عبر في جلسة خاصة عن رأيه الشخصي في الحجاب. بالطبع ما حدث يكشف عن التناقضات في تركيبة الإخوان ومواقفهم التي تفزع حتى بعضاً من أقطابهم، كعبد المنعم أبو الفتوح الذي انتقد بحدة موقفهم من الأمر ومغالاتهم فيه.
إلا أن المفارقة الأكثر أهمية هي التظاهرات النسائية الواسعة التي شهدتها عدة مدن كبرى في مصر ضد تصريحات الوزير، والتي لعب فيها الإخوان دوراً رئيسياً بلا ريب. فتصريحات الوزير لا تحمل فقط نظرة استشراقية، لكنها تحمل ضمناً نوعاً من العنف ضد المرأة، بمحاولته أن يفرض عليها ما لا ترضاه، أي خلع الحجاب رغم انطلاقه من مغالطة الدفاع عن حقوقها. تلك التظاهرات كشفت عن تضامن نسوي جديد يولد في مصر، يأتي من نقطة مغايرة تماماً لما يتمناه أو يتوقعه العلمانيون والنسويات، هو في التحليل الأخير مظهر للمقاومة ضد الاضطهاد، وقد يكون بشيراً لميلاد حركة مقاومة نسائية جديدة.
* كاتب مصري