بولس الخوري *
ينطلق الموقف الإصلاحيّ من نظرة واقعيّة إلى العالم العربيّ الإسلاميّ تبرز ما فيه من نقائص، وتخلُص إلى القول بضرورة التغيير والإصلاح. ولأنّ التغيير من شأنه أن يدفع إلى الحذر والتخوّف من المجهول، ابتعد أهل الإصلاح عن تطرّف أهل التراث وتطرّف أهل التحديث، حفاظاً على الهويّة ورغبةً في العيش في الحاضر. لكن هل يمكن التوفيق بين القيَم التراثيّة وقيَم الحداثة؟ قد يمكن التوفيق بين الطرفين، إذا كان في التراث وفي الحداثة قيَم مشتركة. ومن هذه القيَم: العقلانيّة، العلم، الحرّيّة، المساواة والعدالة، وغيرها من القيَم الإنسانيّة والاجتماعيّة. ومن وجهٍ آخر، أمكن التوفيق بين التراث والحداثة، كما بين عالم القيَم وعالم الوسائل، أو عالم الغايات وعالم الأدوات، أو عالم الدوافع وعالم الوسائط. إذّاك كان لنا موقفان، موقف مثاليّ يركّز على التراث، أي على القيَم، وموقف واقعيّ يركّز على الحداثة، أي على الوسائل. وتجلّى هذا الفرق في أشكال ثلاثة، هي موقف إصلاح الإسلام، والموقف العروبيّ، وموقف الاشتراكيّة العربيّة.
موقف إصلاح الإسلام له أشكال عدّة. منها ما يرمي إلى تبيين أنّ الإسلام له ما يجعله قادراً على أن يتكيّف مع معطيات العالم الراهنة. ومنها ما يؤكّد أنّ القرآن يحتوي على مبادئ العلوم الحديثة. ومنها ما يحاول إحياء الوجه العقلانيّ للتراث العربيّ الإسلاميّ كما تجلّى عند المعتزلة. ومنها ما يحاول القيام بتنقية الإسلام من الانحرافات التي طرأت عليه بهدف إظهار روحه الصافية وديناميّته التاريخيّة. ومنها ما يذهب إلى أنّ الإلهيّات في الإسلام إن هي إلّا إنسانيّات الأزمنة الحديثة.
فمن أصحاب هذا الموقف من قال إنّ شؤون الحياة الأرضيّة يتحكّم بها قرار البشر الهادف إلى تحقيق الخير العام. ومنهم من ارتأى أنّ التغيير الجذريّ في المجتمع العربيّ لا يكون إلّا بثورة ثقافيّة تُحلّ القيَم الحـــــــــــيّة محلّ القيَم البالية. ومنهم من قال إنّ ما يسمّى اليوم بالعلم كان يسمّى الفقه، أي التبصّر الناتج من المدارك ومن الخبرة. ومنهم من ارتأى أنّ تقدّم المجتمع يفترض وعيه وتجذّره في تراثه واتّصال حاضـــــره بمستقبله وماضيه.
أمّا الموقف الإصلاحيّ العروبيّ، فإنّه بدلاً من جعل العروبة عنصراً من عناصر الإسلام، جعل الإسلام عنصراً من عناصر العروبة، فاعلاً في تكوين المجتمع العربيّ الحديث والتنظيم السياسيّ العربيّ الحديث. والعروبة لها وجه سياسيّ قوميّ يرمي إلى توحيد العالم العربيّ أمّةً ودولة. ولها وجه ثقافيّ يرمي إلى إحياء القيَم التراثيّة العربيّة.
ومن أصحاب هذا الموقف من قال إنّ وحدة الأمّة العربيّة هي في آنٍ واحد وحدة عرقيّة ووحدة دينيّة ووحدة القيَم ووحدة التاريخ. ومنهم من لخّص العبقريّة العربيّة بالرحمانيّة مدخلاً، وبالفنّ منهجاً، وبالبطولة غايةً. ومنهم من رأى أنّ الأمّة العربيّة ثقافيّة الطابع، وأنّ أساسها اللغة والتعريب والتراث الثقافيّ ودور العرب التاريخيّ. ومنهم من قال إنّ كلّ من نطق بالعربيّة كان عربيّاً، وإنّ العرب يؤلّفون أمّةً واحدة تشعّبت دولاً متعدّدة. ومنهم من حدّد العناصر التي تتألّف منها أمّةٌ ما، وهي الأرض والجنس واللغة والثقافة والتاريخ والدين والمعتقدات والأفكار والمصالح الاقتصاديّة المشتركة. ومنهم من رأى أنّ الفكر العربيّ يحتاج إلى تجديد بتنقية التراث، فيحتلّ محلّه في مجمل الفكر الإنسانيّ العالميّ.
والموقف العروبيّ موقفان توأمان، البعث والناصريّة. الأهداف مشتركة، والفرق هو في ترتيبها. فشعار البعث هو الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة. وشعار الناصريّة هو الحرّيّة والاشتراكيّة والوحدة. فأمكن وصف البعث بأنّه عروبيّة اشتراكيّة، ووصف الناصريّة بأنّها اشتراكيّة عربيّة. يقول عفلق إنّ فلسفة البعث العربيّ تقوم على ثقة الأمّة العربيّة بنفسها واعتمادها على قواها الخاصّة. ويقول إنّ البعث جعل للعروبة مضمونها الثوريّ: ثورة على التخلّف، ثورة على تقسيم الوطن العربيّ، ثورة في سبيل الديموقراطيّة والقيَم الإنسانيّة. ويقول إنّ الوحدة العربيّة نضال ضدّ الاستعمار والإقطاعيّة والحكم الرجعيّ والدكتاتوريّة العسكريّة. ويقول إنّ الاشتراكيّة العربيّة هي وسيلة في سبيل البعث القوميّ وإرساء العدالة والمساواة والكرامة للجميع.
ويقول عبد الناصر برفض تسلّط الإقطاعيّة والرأسمال والبروليتاريا. ويرى أنّ الاشتراكيّة تعني الاكتفاء الذاتيّ والعدالة. وطريقه طريق ثالث يتحدّد برفض التبعيّة للمعسكر الليبراليّ الرأسماليّ وللمعسكر السوفياتيّ الاشتراكيّ الشيوعيّ. وقد كان حلم عبد الناصر أن يجتمع حول مصر العالم العربيّ والعالم الإفريقيّ والعالم الإسلاميّ والعالم الثالث. أمّا الاشتراكيّة العربيّة، فهي غير الاشتراكيّة العلميّة الرامية إلى تجاوز القوميّة. فهي إذاً أقرب إلى الاشتراكيّة الليبراليّة. ومن أصحاب هذا الموقف من حاول تأسيس الاشتراكيّة على مبادئ إسلاميّة كالمساواة والعدالة الاجتماعيّة ودمج الفرد في المجتمع. ومنهم من حاول تأسيس اشتراكيّة إسلاميّة تكون نظريّةً ثالثة تُغني عن الرأسماليّة والاشتراكيّة الماركسيّة. وقد تكون لكلّ بلد عربيّ أخذ بالاشتراكيّة اشتراكيّته الخاصّة.
من هذه الاشتراكيّات الخاصّة اشتراكيّة كمال جنبلاط واشتراكيّة معمَّر القذّافي. يقول جنبلاط إنّ الاشتراكيّة روحانيّة الطابع، تتحقّق في النفوس قبل أن تتحقّق في الأنظمة والمؤسّسات. ويحدّد الذهنيّة التقدّميّة الاشتراكيّة بأنّها تعتبر الإنسان غايةً، والمجتمع وسيلةً لبناء الإنسان، وبأنّها ترمي إلى الوعي والحرّيّة والحقيقة والعدالة. ويقول القذّافي بضرورة العودة إلى الاشتراكيّة الطبيعيّة القائمة على التساوي بين عوامل الإنتاج، وهي موادّ الإنتاج ووسائل الإنتاج والمنتجون، وعلى التوزيع العادل للمنتجات الطبيعيّة بين الأفراد.
تلك هي المواقف الإصلاحيّة ومبادئها. من هذه المبادئ ما يجمع بين المواقف، ومنها ما يفرّق بينها. فما يجمع هو الشعور بضرورة الإصلاح مع الاحتفاظ بالهويّة العربيّة الإسلاميّة. وما يفرّق هو تفضيل هذه الوسائل أو تلك، وقد يكون أيضاً دوافع شخصيّة أنتجتها ظروف حياتيّة مختلفة.
* كاتب لبناني