عبد الإله بلقزيز *
غيرُ خافٍ أن مسائل الثقافة والدين والهوية باتت تحرك، اليوم، جماعاتٍ ومجتمعات عدة في عالمنا المعاصر، وتضع ديناميات جديدة في الصراعات الجارية فيه: إنْ على صعيد كل مجتمع ــ وخاصة المجتمعات التي لم تنجح الحياة السياسية فيها في تحييد العوامل غير السياسية في صراعاتها الداخلية ــ وإن على صعيد العلاقة بين المجتمعات والأمم والدول، وخاصة منها تلك التي تقوم بينها تفاعلات صراعية عدة مثل المجتمعات العربية والإسلامية ومجتمعات الغرب الرأسمالي. وكثيراً ما زوّدت قضايا الدين والهوية الثقافية والحضارية صراعات هذا العالم بالطاقة المتجددة بحيث دفعت بها إلى بلوغ مستويات عليا من الاحتداد، وألبستْها عناوينَ تعْصَى على أي استيعاب سياسي من قبيل التسوية والوفاق أو ما شابه مما يمكن أن تفيئ إليه صراعات السياسة وتَضَعُ الأوزار. لعل كثيرين يستغربون كيف تستعيد صراعاتُ اليوم عناوينَ الأمس، وكيف تُطِلُّ قضايا الهويات والأديان والجدليات الثقافية على مسرح السياسة وصراعات المصالح الاقتصادية في العصر الراهن. ومبعث الاستغراب ــ لدى مَن يستغرب ــ أن ديناميات التطور الدافعة نحو الحداثة ــ كرؤية جديدة للعالم ــ ونحو التقدم التقني والصناعي ممَّا يُفّترض فيها أن تُحَرّرَ السياسة والمصالح المادية من أي تأثير لعوامل فوق - سياسية وفوق - اجتماعية تتصل بالروحيّ أو بالرموز. فالتاريخ ــ في مرآة هذه النزعة الداروينية الاجتماعية أو النزعة التطورية ــ حركةٌ نزَّاعةٌ إلى الأمام، تتخطى ما قبلها بعد أن تدمّره، وتفتح الأنفاق وتوسّع المسارب أمام حركته الصاعدة أبداً. لا مجال ــ هنا ــ لدورةٍ مُغْلقة يعود فيها التاريخ إلى ما كانَهُ، أو يستعيد فيها بعضاً من قسماتِ أمْسِه. أما إذا كان لا بُدّ من حركة دائرية للتاريخ، فهي ــ في هذه المرآة ــ حركة دوران حلزوني لا تختلط فيها الأزمنة، بل تتمايز وتزداد انفصالاً.
سيخطئ من يحسب هذه العقيدة الحتمية، أو الحتموية، (التي تعبّر عنها هذه النزعة الداروينية ــ الاجتماعية) على الماركسية بدعوى أنها مَنْ كرَّس النظر إلى السياسة والمصالح والصراعات انطلاقاً من رؤية مادية للعالم وللمجتمعات، ذلك أن هذه النظرة الظفراوية للتاريخ أقرب ما تكون إلى الهيغلية وهُيامِها بالجدل المندفع للمتناقضات نحو تحقيق الفكرة المجرَّدة: العقل والتاريخ، كما هي أقرب إلى النزعة المادية الميكانيكية التي قدَّسَت الحتمية ورأت فيها قانوناً أوحد للتطور...، منها إلى الماركسية. صحيح أن في فكر ماركس جراثيم النظرة الداروينية للتاريخ، حيث كانت نظرية «النشوء والارتقاء» ثقافة عصره، وصحيح أن موضوعة الصراع الطبقي ــ كعلاقة حاكمة في تاريخ المجتمعات ــ تكشف عن بعض مستويات تأثره بالأطروحة الداروينية: حيث التاريخ حصيلة تفوُّق طبقة على أخرى وعلاقات إنتاج على أخرى. لكن النزعة الإنسانوية لماركس ــ التي حاول ألتوسير مَحْوَ آثارها ــ أضفت الكثير من النسبية على هذه النظرة الحتمية الداروينية الاجتماعية للتاريخ، مثلما أعادت الاعتبار إلى عوامل قيمية كانت الثقافة البورجوازية (الاقتصادية) مثلاً قد أزاحتها من المشهد وتنصَّلت منها منسجمة مع منطق الرأسمالية غير الإنساني. في كل حال، إذا كان ماركس قد ذهب ــ في تحديده للعوامل الحاكمة للتناقض الاجتماعي وللصراع بين الطبقات ــ إلى القول إن العوامل المسيطرة، والمحدِّدة أحياناً، هي العوامل الايديولوجية (الدينية والثقافية..) في المجتمعات قبل ــ الرأسمالية، خلافاً للمجتمعات الرأسمالية التي تكون فيها تلك العوامل اقتصادية...، فإن أحد الماركسيين المحدثين ــ هونيكوس بولانتزاس ــ ذهب إلى القول إن العوامل المسيطرة في بنية التناقضات الاجتماعية هي العوامل السياسية في مقابل العوامل الاقتصادية التي هي عوامل محدِّدة. وغير خافٍ أن العوامل السياسية ليست بعيدة دائماً عن مثيلتها الايديولوجية والثقافية، وخاصة في المجتمعات الرأسمالية التبعية، كما تنبَّه إلى ذلك مهدي عامل ــ مثلاً ــ في تحليله للمسألة الطائفية في لبنان، حيث يعاد إنتاج البُنى القديمة. شبيهٌ بهذا الاستغراب الذي يبديه المهووسون بالنزعة التطورية ـ الحتمية من عودة مسائل الثقافة والدين إلى مسرح السياسة والصراع، استغرابٌ آخر يبديه المدافعون عن الفرضية القائلة بأن العامل الثقافي والروحي هو العامل المحوّل للصراع بين المجتمعات والأمم. أولاء يستغربون لاستغراب الأولين مشدّدين على أن استعداد الناس (الشعوب) للدفاع عن حقوقها ومصالحها الاقتصادية والسياسية، بل هو قد يفوقه أهميةً وقيمة. فالمجتمع ، في مرآة هذه النظرة الانثروبوثقافية، قد يتحمل العدوان على قُوتِهِ وحقوق أهاليه المادية، لكنه ليس يقْوى على تَحَمُّل العدوان على هويته ودينه وثقافته، فهذه القراءة الثقافوية ميّالة إلى القول إن رابطاً قويّاً موجود بين العدوان على الهوية والعدوان على الحقوق والمصالح، وهو ما يبرّر الدفاع عن الهوية بوصفه دفاعاً عن تلك الحقوق، فإن هذا البعضَ بعضٌ، أما الأغلبُ الأعمّ، فمن أولئك النازعين إلى الفصل بين الهوية والثقافة من جهة والمصالح والسياسة من جهة أخرى، على خلفية القول بأن الثانية فرعٌ من أصلٍ هو الأولى!
ليس صحيحاً أن التطور والتقدم والحداثة تَجُبُّ ما قبلَها، وتزيح عوامل الثقافة والدين من مسرح التاريخ، كما تعتقد النزعة التطورية والحتموية (الصناعية والتقنوية).
وليس صحيحاً أن التاريخ وفيٌّ لـ«جوهره» الذي «لم يحِدْ» عنه، وهو أنه صراع بين الحضارات والثقافات والهويات، وأن الصدام السياسيّ ليس أكثر من تجَلٍّ خارجي لذلك الصراع. الفرضية الأولى تنفي أن تكون العوامل الروحية والثقافية مخزوناً هائلاً تتزوَّد به السياسة والصراع السياسي لتحقيق المصالح. والفرضية الثانية تنفي أن هدف أي صراع، وإن اتخذ شكلاً ثقافياً أو دينياً، إنما هو في النهاية تحقيق مصلحة سياسية. دعونا نأخذ مثالاً من الواقع يستبين به أمر ُ القاعدة النظرية: الصراع العربي ــ الصهيوني. في هذا الصراع ــ وله في العالم أشباهٌ ونظائر ــ مُتَّسع للتعبير عن القراءتين. الرواية الأولى لهذا الصراع تقول إنه صراع بين الإسلام واليهودية، أو بين المسلمين واليهود (وفي أفضل التجليات: صراع بين المسلمين والمسيحيين العرب من جهة واليهود من جهة أخرى)، و«إسرائيل» في هذا الصراع إذ تستهدف فلسطين والفلسطينيين، إنما تستهدف هوية الأرض والشعب: الدينية والثقافية. أما الرواية الثانية، فتقول إن الصراع صراع بين مشروعين سياسيَّين: مشروع قومي صهيوني شديد الارتباط بالمشروع الاستعماري الامبريالي ومشروع وطني وقومي (فلسطيني عربي) تحرُّري هدفه تحرير فلسطين لا مقارعة اليهود واليهودية. في الروايتين معاً خلل: تنسى الرواية الأولى أن الصراع صراع على أرضٍ، في المقام الأول، هي أرض فلسطين وإن جنَحَ للتعبير عن نفسه دينياً وثقافياً. وتنسى الرواية الثانية أن الإسرائيليين يعودون في هذا الصراع إلى أسفارهم، والعرب يعودون إلى مخزونهم الروحي والثقافي، لتعبئة جمهورهم ودفع درجة الصدام إلى الحدّ الأقصى بحسبان المعركة معركة وجود، وباعتبار التوسل بالمخزون ذاك توسُّلاً بسلاحِ شديد الفتك بالعدو. إجمالاً، تستدعي النظرة إلى دور العوامل الثقافية والدينية في حقل السياسة والصراع السياسي مقاربةً جديدة ومختلفة: مقاربة تتوسّل بأدوات التحليل السوسيولوجي السياسي، من دون أن تتخلى عن النقد المعرفي لنزعة المغالاة في تأسيس عقائد ثقافوية على ظواهر الصراع الثقافي والديني على شاكلة تلك التي يندفع إليها المعتصمون بخطاب الهوية اليوم.
*استاذ جامعي - المغرب