يحيى أبو زكريا *
تشبه بداية هذا القرن ببداية القرن الماضي في كثير من التفاصيل وتحديداً الجانب المتعلّق بالعالم العربي والإسلامي. ففي بداية القرن التاسع عشر استُبيح العالم العربي والإسلامي استباحة عسكرية وثقافية وسياسيّة واقتصاديّة وقد أدّت هذه الاستباحة التي كان وراءها الغرب بثقافتيه الفرنسية والإنجليزيّة إلى تعطيل المشروع النهضوي العربي والإسلامي. وفي الوقت الذي كانت فيه الحركة الاستعماريّة الغربيّة تطوّر مشروعها النهضوي بمواردنا الأوليّة وبأيدي أجدادنا الرخيصة، كانت في المقابل تطوّق كل منطلقات النهضة في مواقعنا، وحتى لمّا غادرت هذه الحركة الاستعماريّة مواقعنا بضربات هذه الثورة وتلك، فقد غرست في الصفوف الأمامية والخلفيّة لكل ثورة من سوف يكمل المسار الاستعماري لكن بأساليب جديدة، ولعلّ هذا ما قصده الجنرال شارل ديغول وهو يغادر الجزائر عام 1962 عندما قال: لقد غرسنا في الجزائر بذوراً ستونع بعد حين. وشاءت الظروف أن فعل أبناء ثقافة فرنسا في الجزائر ما لم تفعله فرنسا نفسها في الجزائر.
وعلى امتداد مئة سنة عاش عالمنا العربي والإسلامي موزعاً بين ثقافتين هما الثقافة الفرنسية التي كانت تمثّلها الأمبراطوريّة الفرنسيّة التي كانت تحتّل ثلث الكرة الأرضية، والثقافة الإنجليزيّة التي كانت تمثلها الأمبراطوريّة البريطانيّة التي كانت تحتلّ ثلثاً آخر من الكرة الأرضيّة. ولم تعمل الأمبراطوريتان الفرنسية والإنجليزية على نشر الحضارة والازدهار كما ادّعتا في بداية احتلالهما لهذه الدولة وتلك، بل قامتا بامتصاص كل الخيرات التي كانت كفيلة لو ظلت بأيدي أصحابها بإحقاق النقلة النهضويّة في واقعنا العربي والإسلامي. وعلى الرغم من انتهاء مرحلة الأمبراطوريّات، إلّأ أنّنا دخلنا مرحلة أشد خطورة هي عبارة عن جمع بين ما سبق من تعسّف أمبراطوري عسكري ــ حيث الاعتداء على الجسد والجغرافيا ــ والتعسف العقلي والثقافي ــ حيث التخطيط المحكم لمصادرة تاريخنا وموروثنا ومقدساتنا.
فالأمركة أو العولمة هي المشروع الذي تقوده حاليّاً الولايات المتحدة الأميركيّة التي تريد تعميمه على العالم وخصوصاً بعدما أصبحت المهندس الوحيد لمجمل القرارات العالميّة، وعلى رغم تعميمها لنموذجها بقوة التقنية والإعلام في مجمل القارات الخمس، إلاّ أنّها انتقلت إلى مرحلة الفعل العسكري لتعميم هذا النموذج في المواقع التي تتمتّع بممانعة ذاتية لمشروعها. وقد دفع مشروع الأمركة مشروعاً آخر كان موجوداً ومطروحاً لكن ليس بهذه القوة وهو مشروع الفرنكوفونية الذي تقود لواءه فرنسا. وكلا المشروعين الأمركة والفرنكوفونية هما مشروعان إرهابيان وليدا نزعة استعلائيّة استكباريّة في حقّ الشعوب المستضعفة. فالغزاة الفرنكوفونيون عندما وصلوا إلى المغرب العربي عام 1830، حوّلوا المساجد إلى كنائس واصطبلات، وجمّدوا تدريس اللغة العربية، واعتبروا مدرّس اللغة العربية مجرماً يجب سجنه بين ستة أشهر وسنتين، وفي المقابل فرضوا اللغة الفرنسية وأجبروا الناس على ضرورة تعلّمها إلى أن نسوا لغتهم الأم اللغة العربيّة. ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا في الجزائر في بداية غزوها أربعة ملايين جزائري هبّوا للدفاع عن مقدساتهم، وانتهكوا حرمات النساء. وقد تمكّن الغزاة الفرنكوفونيون من إفقار إفريقيا وامتصاص خيراتها، ولم يبقوا حتى على الفاكهة الإفريقية التي كانت ترسل للإنسان الأوروبي، بعد أن يزرعها ويقطفها الإنسان الإفريقي من دون مقابل. وحتى المساعدات الفرنسيّة إلى الشعوب الإفريقيّة بعد استقلال إفريقيا كانت تسترجع فرنسا بدلها ربحاً مضاعفاً، وقد قال مستشار الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران إنّ كل فرنك تدفعه فرنسا مساعدةً لإفريقيا تسترجع بدله عشرة فرنكات. والأمركة المتحالفة مع الراديكاليين اليهود والبروتستانت تهدف هي الأخرى إلى استئصالنا من واقعنا الثقافي والحضاري إلى واقعها وحضارتها باعتبارها النموذج المنتصر على حد ما ذهب إليه فوكوياما.
وقد استخدمت الأمركة نفوذها الاقتصادي والعسكري والأمني واللوجستي والسياسي في تنفيذ مشروعها الذي بدأ بتحويل الإسلام إلى عدو رقم واحد للكتلة الغربيّة، ثمّ لجأت إلى نخر هذا العدو على رغم كونه مستضعفاً ضعيفاً، بتجفيف منابعه الثقافية تارة، ومحاصرته تارة أخرى، ولأنّه لم يبق له إلّا النفط فهي قادمة لتجريده من هذا المصدر الذي بقي له، وبعد ذلك وعندما تتأكّد أنّها قد أجهزت عليه تعمل في مواقع وجوده صياغةً وإعادةَ رسم تماماً كما بدأت الأمبراطوريات السالفة الذكر برسم خرائطنا وجغرافياتنا في بداية القرن الماضي.
ويأتي دور الصهينة لتكمل ما تبقى من مشاريع الوأد الحضاري في أهم موقع جغرافي وحضاري نملكه، وبمباركة من الأمركة، وصمت عفيف من الفرنكوفونية. توغل الصهينة خناجرها في أهم موقع عربي وإسلامي، وتغذي الصهينة مشروعها السياسي والعسكري والأمني بمشروع ثقافي وفكري يهدف إلى تشويه حقائق التاريخ والجغرافيا، ويضيف إلى مشاريع الانقضاض على عالمنا العربي والإسلامي مشروعاً آخر لا يقل خطورة بل هو الدافع لهذه المشاريع إلى أن تمعن في طعن العالم العربي والإسلامي المريض.
*كاتب عربي - السويد