بولس الخوري *
كان موضوع المحاضرة التي ألقاها البروفسور يوزف راتسنغر «الإيمان والعقل والجامعة ـ ذكريات وخواطر». وبعدما تذكّر المحاضر ما كانت عليه العلاقات بين الأساتذة من انفتاح واحتكام إلى العقل في الحوار، ممّا جعل الجامعة جامعةً بالفعل، ذكر مقطعاً من المجادلة dialexis السابعة من المحاورة dialogos التي جرت بين الإمبراطور البيزنطيّ مانويل الثاني باليولوغوس وفارسيّ مثقّف اسمه ــ من اسم مهنته ــ «مدرّس»، وذلك في الكتاب الذي حقّق فيه تيودور خوري النصّ اليونانيّ ونقله إلى الفرنسيّة وقدّم له وشرحه، والذي صدر في سلسلة «ينابيع مسيحيّة» Sources chrétiennes، الرقم 115، في باريس، عام 1966، بمثابة أطروحة ثانية لشهادة دكتوراه دولة في الآداب، بإشراف البروفسور روجيه أرنلديز Roger Arnaldez، الذي هو بدوره اختار موضوعاً لرسالته للدكتوراه فكر ابن حزم القرطبيّ. في هذا المقطع توقّف المحاضر عند فكرة أساسيّة، هي أنّ الإيمان لا يفرَض بالعنف.
في صدد ذلك، ذكر المحاضر أنّ نبيّ الإسلام قال «لا إكراه في الدين» (البقرة 256) في زمن لم يكن فيه مسيطراً، ثمّ فيما بعد، لمّا استتبّ له الأمر، وضع أحكام الجهاد، أي «الحرب المقدّسة»، أي العنف. تجدر الإشارة إلى أنّ المحاضر صرّح بأنّه لا يتبنّى موقف الإمبراطور من الإسلام. إلاّ أنّ ما لفت انتباهه هو فكرة جعلها منطلقاً لخواطره في العلاقة بين الإيمان والعقل، هي قول الإمبراطور البيزنطيّ إنّ «العمل بخلاف العقل يخالف طبيعة الله». ولمّا كان الله، بحسب إنجيل يوحنّا، اللوغس logos، أي العقل والكلام، وجب التوسّل بالكلام الحسن والتفكّر الصحيح، لا بالعنف والتهديد، لقيادة الناس إلى الإيمان.
عند هذا الحدّ، لم يعد البابا يذكر الإسلام. فما استرعى انتباهه، لكونه موضوعَه وأطروحتَه، إنّما هو تبيين الصلة العضويّة بين الطريقة اليونانيّة في المساءلة والإيمان البيبليّ. وذلك في مواجهة جميع المحاولات الهادفة إلى نزع الطابع الهلّينيّ عن المسيحيّة.
ولمّا كان البابا قد تطرّق في كلامه إلى الإسلام، وإن كان كلامه تحريضاً على وجوب الفصل بين الإيمان والعنف، واعتماد العقل في الحوار الدينيّ، ارتفعت أصوات في العالم الإسلاميّ احتجاجاً على ما اعتقد كثيرون بأنّه تحامل على الإسلام، بل مطالبةً بأن يعتذر البابا شخصيّاً من المسلمين، بل بإقالته من منصبه!
في مقابل فورة بهذا الحجم، لا بدّ من التساؤل: من يحقّ له في المطالبة بالاعتذار أو بالإقالة، وبأيّ صفة، ولأيّ تهمة. هل أقام أصحاب الحقّ من المسلمين وغير المسلمين محكمةً رسميّة فيها القضاة والمحامون؟ فكلّ ما يُسمع أو يُقرأ أو يُنشر في وسائل الإعلام إنّما هو احتجاج فيه الكثير أو القليل من العنف من قبَل بعض الأوساط الإسلاميّة، من دون ذكر أيٍّ من الأسباب الموجبة. ومن المفارقة المثيرة للعجب أن يكون المطالبون بالاعتذار أو الإقالة على هذا النحو قد أثبتوا، من حيث لا يدرون، اتّهام الإمبراطور البيزنطيّ المسلمين باللجوء إلى العنف لا إلى العقل!
لا يمكن القول إنّ البابا قد تهجّم على الإسلام، إذ إنّه انتقد طريقة الإمبراطور في انتقاده الإسلام، حيث وصف هذه الطريقة بالخشونة المستغربة، وبفقدان الدماثة. فيكون البابا أخذ على الإمبراطور وقوعه في تناقض، حيث يطالب باللجوء إلى العقل ويلجأ هو نفسه إلى العنف في كلامه!
أمّا ما قد يؤخذ على البابا، فهو ما ورد في كلامه على العلاقة بين الإيمان والعقل، وبين الإيمان والعنف.
في العلاقة بين الإيمان والعقل، يستند المحاضر إلى ما ذكره تيودور خوري من قول روجيه أرنلديز، المتخصّص في فكر ابن حزم القرطبيّ، ليتبنّى التصوّر البيبليّ لله على أنّه لوغس، أي عقل وكلام، في مقابل التصوّر الإسلاميّ لله على أنّه مشيئة مطلقة تتعالى حتّى على مقولات العقل. وقد ذكر المحاضر أنّ سكوت Duns Scot، في العصر الوسيط اللاتينيّ، تصوّر هو أيضًا الله كما تصوّره ابن حزم.
ولعلّ المحاضر كان أحسن لو أنّه ذكر أنّ ابن حزم لا يمثّل إلاّ إحدى المدارس الكلاميّة الإسلاميّة، هي الظاهريّة. ففي الإسلام ثمّة متكلّمون، كالمعتزلة، قالوا بتحكيم العقل في المعتقدات. ومن المتكلّمين من حاول التوفيق بين الإيمان والعقل، كما يحلو للمحاضر. ثمّ يتبيّن لمن يطالع القرآن أنّ لفظة العقل وصيغها الفعليّة ترد في 49 آية، وأنّ لفظة الفقه وصيغها الفعليّة ترد في 20 آية، وأنّ لفظة الفكر وصيغها الفعليّة ترد في 18 آية. ثمّ كان في الإسلام كثير من المتكلّمين العظام الذين أعملوا عقولهم في جميع معطيات الوحي والإيمان. يكفي للتأكّد من ذلك مطالعة كتاب «مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين» للأشعري، أو «كتاب الفصل في الملل والأهواء والنِحَل» لابن حزم، أو «كتاب الملل والنحل» للشهرستاني...
ثمّ قد يقع الشكّ في صحّة استعمال العقل في مجال الدين. فالمسيحيّون يقولون بعلم اللاهوت (انظر مقالة théologie لكونغار Congar في قاموس اللاهوت الكاثوليكيّ Dictionnaire de théologie catholique)، إلاّ أنّهم، حيث وضعوا، كما فعل المسلمون أيضاً، أنّ الله في ذاته لا يُدركه العقل البشريّ ولا يعبّر عنه الكلام البشريّ، لجأوا إلى مبدأ المماثلة analogie، مستندين لذلك إلى سفر التكوين 1: 26 «وقال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا، كمثالنا». لكنّ القول بالمماثلة بين الله والإنسان يفترض معرفة المثال (الله) والمثيل (الإنسان). ولمّا كان المثال لا يمكن التعبير عنه، كان تصوّر ما هو انطلاقاً من المثيل، فصار المثيل هو المثال!
ثمّ التناغم بين الإيمان البيبليّ والعقل اليونانيّ، من المستغرب أن يؤسّسه المحاضر على ما ورد في أوّل الإنجيل بحسب يوحنّا: «في البدء كان اللوغس... واللوغس كان الله». في ذلك وجهان من الخلط. أوّلاً، اللوغس لا يعني «معاً العقل والكلام». بل هو يعني أوّل ما يعني الكلام أي التعبير المطابق لكيان الله وصورة الله أو أيقونة الله (2 كورنثس 4:4، كولسّي 1: 15)، يعني تعبيراً يعبّر الله به عن ذاته، وتعبيراً يبعثه الله إلى الناس على قدْر طاقتهم على الإدراك. ثمّ القول «واللوغس كان الله» يراد به الكلمة، في حين أنّ مقولة البابا المحاضر قد تفيد أنّ الله في كيانه هو عقل: إذن صار الله موضوعاً أمكن تحديده، وذلك على مثال الإنسان الذي تحدّد بأنّه عقل في ذاته. الله لا يبالي باستدلال واستنتاج... وإلاّ وقع التشبيه! ثُمّ يوحنّا نفسه يقول إنّ المسيح، الكلمة المتجسّدة، علّم بأمثال (يوحنّا 16: 25): «قد كلّمتكم بهذا بأمثال. ولكن تأتي ساعة لا أكلّمكم فيها بأمثال، بل أخبركم عن الآب علانيةً». وما يثير العجب أنّ المحاضر البروفسور يوزف راتسنغر لم يذكر على الأقلّ عنوان الرسالة العامّة التي أنشأها البابا بندكتوس السادس عشر «الله محبّة»، وهو قول (1 يوحنّا 4: 8) ليوحنّا القائل باللوغس. فيبدو أنّ الساعة أتت للكلام علانيةً في الآب، والانتقال من المحبّة إلى اللوغس!
إلى ذلك قد يذكر متكلّم في اللاهوت قول بولس الرسول (1 كورنثس 1: 17-25): «لأنّ المسيح لم يرسلني لأعمّد، بل لأبشّر لا بحكمة الكلام لئلاّ يبطل صليب المسيح... فأين الحاكم وأين الكاتب وأين فاحص هذا الدهر؟ أليس الله قد جهّل حكمة هذا العالم؟... لأنّ اليهود يسألون الآيات، واليونانيّين يبتغون الحكمة. أمّا نحن، فنكرز بالمسيح مصلوباً، شكّاً لليهود، وجهالةً للأمم». أو ما كان الردّ على خطاب بولس في الأريوباغي (أعمال 17: 32): «فلمّا سمعوا بقيامة الأموات، استهزأ بعضٌ منهم، وقال غيرهم: سنسمع منك عن هذا مرّةً أخرى». أو أيضاً قول بولس (روما 9: 18-20): «إذاً هو يرحم من يشاء ويقسّي من يشاء. ولعلّك تقول لي: فماذا يشتكي بعد؟ من الذي يقاوم مشيئته؟ تُرى من أنت، أيّها الإنسان المجاوب لله؟ ألعلّ الجبلة تقول لجابلها: لمَ صنعتني هكذا؟». إذاً يبدو أنّ الله هو مشيئة أكثر منه لوغس! في هذا السياق، سياق فكر بولس، أيّ متكلّم في اللاهوت يسعه الادّعاء بإعمال العقل بالاستدلال في «أسرار» الثالوث والتجسّد والإفخارستيّا؟... الإيمان بالله وفقاً للكتاب مثاله إيمان إبراهيم. ولا نعلم أنّ إبراهيم لجأ إلى اللوغس اليونانيّ ليؤمن. وتؤكّد ذلك حكايته في الكتاب (تكوين 15: 6)، وقول بولس (روما 4: 1-3). ثمّ مشهور القول المنسوب إلى ترتلّيانوس: أؤمن لأنّ ما أؤمن به غير معقول: credo quia absurdum ! لكن صحيح أيضاً أنّ المحاضر حاول التصدّي لتيّار نزع الهلّينيّة عن المسيحيّة.
أخيراً لا ينقاد الناس إلى الإيمان بالكلام الحسن والتفكّر الصحيح. فللدعاة أن يشهدوا لإيمانهم بأعمالهم، والله هو واهب الإيمان.
من بين المحدَثين الذين ينتقد البابا محاولتهم نزع الهلّينيّة عن المسيحيّة، كان من المرتقب ذكر بعضهم، من مثل سارتر Sartre وغيره ممّن قابلوا الإيمان والمعرفة croire et savoir، وخصوصاً هايدغر Heidegger الذي جعل الله موضوعاً للإيمان البيبليّ، وجعل الكون موضوعاً للتفكّر اليونانيّ.
في العلاقة بين الإيمان والعنف، يذكر المحاضر الجهاد، ويحدّده بأنّه الحرب المقدّسة، موحياً أنّ الإسلام يأمر بقيادة الناس إلى الإيمان الإسلاميّ بواسطة الحرب والسيف. كان الأحرى به أن يميّز، كما فعل المتكلّمون المسلمون، بين الجهاد الأكبر، أي التغلّب على الأهواء للتقرّب إلى الله، والجهاد الأصغر أي الحرب المقدّسة، وهي دفاع عن الإسلام والمسلمين في مواجهة المعتدين. يبدو أنّ المحاضر ليس الإسلام وعقائده من اختصاصه العلميّ، وهو لا يدّعي التخصّص في ذلك.
ثمّ قد يطرح السؤال لماذا لم يذكر المحاضر العنف باسم الإيمان اليهوديّ أو باسم الإيمان المسيحيّ.
يقول الإمبراطور: إنّ الله لا يستحسن الدم. ويهوه هو أيضاً لا يحبّ دم الذبائح. لكنّه يقول لبني إسرائيل على لسان موسى: «فإن امتثلتَ قوله وعملت بجميع ما أتكلّم به، عاديتُ أعداءك وضايقت مضايقيك، لأنّ ملاكي يسير أمامك ويُدخلك أرض الأموريّين والحثّيّين والفَرِزّيّين والكنعانيّين والحُوّيّين واليَبوسيّين، وأبيدهم... لا أطردهم من وجهك في سنة واحدة، كيلا تصير الأرض قفراً، فتكثر عليك وحوش الصحراء. لكنّي أطردهم قليلاً قليلاً من أمامك، إلى أن تنمي فترث الأرض» (خروج 23: 22-23، 29-30). ثمّ يجعل موسى يأمر بني لاوي بقتل كلّ من عبد العجل (خروج 32: 25-29). ثمّ يأمر يشوع بن نون بأن يبيد في أريحا «جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ، حتّى البقر والغنم والحمير بحدّ السيف» ، وكذلك في غيرها، تمهيداً لدخول أرض الميعاد (يشوع 6: 21، 8: 1-2، 23-25).
والمسيحيّون لم يكونوا دوماً من المسالمين. فلهم «أيّامهم»، من حروب صليبيّة، ومن حروب بين المسيحيّين في أوروبا، ومن محاكم التفتيش، ومن السان بارتليمي la Saint-Barthélemy، ومن الإكراه في التعميد، ومن التوافق بين المرسَلين والمستعمِرين، وغير ذلك من أعمال عنف مسيحيّة الطابع.
في سبيل توضيح أكثر، أقدّم قراءتين في المحاضرة، قراءة أكاديميّة وقراءة سياسيّة. القراءة الأكاديميّة تبيّن ما كان يجب إدخاله من التوضيحات التفصيليّة، حتّى لو اقتصر العرض على أبعاد الصلة بين الإيمان والعقل. والقراءة السياسيّة، وهي بطبعها تخلط الحابل بالنابل، تجعل الوجه الأكاديميّ في السياق السياسيّ العالميّ. ومعلوم ما أنتجته من أوضاع مأساويّة «الحملة الصليبيّة» التي أطلقتها أميركا على ما أسمته «الإرهاب» ووصفته بأنّه ملازم للإسلام. وذلك من دون التمييز بين المسلمين المعتدلين والمسلمين المتطرّفين، وبين المسلمين الأصليّين والمسلمين «المفبرَكين» ليكونوا في خدمة مصالح معادية للإسلام والمسلمين... إذّاك كان التكلّم في الإسلام باستعارة عبارات مجادل مسيحيّ من العصر الوسيط، وإن لم يكن المتكلّم يتبنّى مقالة المجادل، يفسح في المجال للخلط بين الإمبراطور والبابا! والتكلّم في الجهاد بمعنى الحرب المقدّسة يوحي، شاء المتكلّم أم أبى، أنّ الجهاد الإسلاميّ إن هو إلاّ شكلٌ من أشكال الإرهاب! كان بالإمكان تحاشي هذا الخلط لو أتى المحاضر على ذكر الحروب التي شنّها اليهود والمسيحيّون كلٌّ منهم باسم دينه.
هل يجب القول بإساءة إلى الإسلام؟ قطعاً لا. وذلك أنّ نصّ المحاضرة لا يحتوي على أيّ تهجّم على الإسلام من قبَل البابا. جلّ ما يمكن قوله هو أنّ البابا قد وقع في شيء كالمطبّة. ذلك أنّه ليس ما يبرّر العودة إلى المجادلات الوسيطيّة بين المسيحيّين والمسلمين. يمكن القول إنّ رئيس حاضرة الفاتيكان كان على سفرائه في البلدان الإسلاميّة أن يطلعوه على حساسيّة المسلمين المرهفة لكلّ ما يمسّ ديانتهم من قريب أو من بعيد، وخصوصاً في هذه الحقبة التي تسود فيها سياسة أميركيّة مشؤومة معادية للإسلام وغير مطّلعة على جوهر هذا الدين. ومع ذلك قد يقال إنّ البابا اختار أن يتكلّم في الإسلام انطلاقاً من مجــــــادلـــة وســـــيــــــطيّة، ليـــــــقــــــول إنّ حوار الأديان لا يقوم على العنف الدفاعيّ والهجوميّ ولو كان كلاميّاً، بل على العقل المشترك بين المتحاورين. لا بأس في ذلك. لكن كان يجدر بالمحاضر أن يفصل السياسة العالميّة عن الكلام العقليّ في العلاقات بين الإيمان والعقل، وبين الإيمان والعنف.
*مفكر لبناني