هدى رزق *
أن يلقي جعجع خطاباً ليركز على ثوابت القوات اللبنانية من خلال التموضع وراء خطاب السيد حسن نصر الله فهذا مفهوم وهذا حقه.
فالرجل على الرغم من سنوات الحرب لم يغيّر موقفه وبقيت تحالفاته ثابتة.
فالقوات اللبنانية في عهد بشير الجميل وقفت الى جانب الخط العربي المتحالف مع الولايات المتحدة أي الخط الأردني ـ المصري ـ السعودي وإن جنحت الى الأسرلة تحت حجة الاتفاقية العربية الاسرائيلية انطلاقاً من عام 1978. فبشير الجميل لم يتربّع على سدّة الرئاسة اللبنانية بفضل الدبابات الاسرائيلية التي رشحته لها، لكن زيارته الى السعودية في ذلك الوقت هي التي أتت به رئيساً للجمهورية، وإن الصراع العربي ـ العربي هو الذي أودى به. من هنا يمكن فهم تحالف جعجع وصولانج وأمين الجميل مع سعد الحريري والخط السعودي.
فبشير الجميل حاول استمالة البورجوازية السنية قبل الاجتياح عندما خطّت الجبهة اللبنانية وثيقة توجهت بها الى هذه الشريحة المجتمعية عام 1981 التي كانت ميالة الى الخلاص من الفلسطينيين في تلك الفترة للعودة الى صيغة 1943.
لم يشذ إذاً جعجع عن قاعدة تحالفاته عندما وافق برعاية البطريرك صفير على اتفاق الطائف الذي شكل له حبل خلاص من عدوه اللدود العماد ميشال عون الذي نُفي بموافقة هذه الأطراف.
لكنه كان يريد حصة المسيحيين في هذا الاتفاق لا الدخول الى السجن تحت شعار الإخلال بالطائف.
انطلاقاً من ثباته في موقفه في التحالفات السياسية تناول في خطابه مسائل ثلاث، فالمسألة الأولى ركزت على استعادة ذكرى شهداء القوات مقابل شهداء المقاومة الإسلامية في محاولة للمساواة بفعل الاستشهاد من دون الاخذ بعين الاعتبار أسباب الاستشهاد، فلكلٍّ شهداؤه حسب مفاهيمه ومقولاته، حيث يتم التساوي بين سوريا والفلسطينيين والاسرائيليين على اعتبار ان كلهم «خارج» وكلهم «أعداء».
وهي محاولة لتثبيت نظرية غسان تويني في «حروب الآخرين على أرضنا» وهي المحاولة التبريرية للالتفاف على واقع الحرب الأهلية والانتقال من موقع الى آخر، وهي المقولة ـ التبرير المعتمدة اليوم من قبل كل من أراد تحوير الوقائع أو العودة عن مواقفه السياسية أو التنصّل والاغتسال من دنس الحرب اللبنانية وأموالها 1975 ـ 1989 عبر إلقاء اللوم على الآخرين بدل مواجهة الواقع والبحث عن حلول جدية تنتج دولة عمادها النقد الإيجابي لا تبرير الأخطاء.
أما المسألة الثانية فركزت على سوريا ودورها، عدوة الأمس واليوم التي تسببت في سجنه، وألقى عليها اللوم في كل ما يحصل وحصل وسيحصل في لبنان وهو يعبّر عن موقفه وموقف جنبلاط حليف اليوم.
وورد موقفه ضد سلاح المقاومة تحت ستار ان المقاومة الاسلامية هي حليفة سوريا وايران اللتين تخوضان حربهما على أرضنا.
أما المسألة الثالثة فهي التركيز على توق الناس للحرية والسلام في محاولة للإيحاء ان حزب الله يحاول جر الناس الى الحرب وهي المقولة التي رددتها قوى 14 شباط طوال 33 يوماً والتي يترجمها جمهورها اليوم وتفيد بأن السلام مع اسرائيل هو الحل من دون الشرح لهذا الجمهور أن اسرائيل لا تريد السلام مع العرب إنما تريد سلام تفرضه هي عليهم وهو مفهومها للسلام، أي سلام السيطرة والاذعان الذي لا يمكنه ان يعكس توازناً في ظل انعدام التوازن في المنطقة لمصلحتها، ودعم الادارة الاميركية الراهنة.
هذه الثوابت تشكل موقفاً يتبنّاه كل من وليد جنبلاط وتيار المستقبل، فانطلاقاً من هذه المسائل الثلاث لا يحق لسمير جعجع الاحتفال بشهداء القوات اللبنانية فقط انما بتعويم مواقفه التي بُعثت ثانية وإن تغيرت المواقع، فالآخرون أتوا إليه، الى منطقه واعترفوا بأخطائهم ولا سيما جنبلاط الذي دان تسع وعشرين سنة من تاريخه في العمل السياسي، فبأية شعارات وثوابت يمكنه ان يبرر استشهاد شبان الحزب التقدمي الاشتراكي. وماذا سيقول لهم؟ ان استشهادهم كان خطأ ولقد أرسلوا الى قضية ليست قضيتهم.
يحاول جنبلاط إسقاط مواقفه الراهنة على اغتيال كمال جنبلاط حين ساوم على هذا الاغتيال، ويحاول الاختباء خلف النعش لتبرير كل المواقف التي اتخذها منذ عام 2000، وكل التحولات السياسية التي يقوم بها، لكن الواقع سياسي وليس عاطفياً وهو مبدئي، فالمشكلة تكمن اليوم في محاولة استعمال هذا الاغتيال كيساً من رمل للاختباء بعد فقدان منطقه وعلة وجوده السياسي لا الوراثي، ولا سيما بعد تبنّيه ثوابت سمير جعجع والقوات اللبنانية، فكيف سيبرر ذلك كمال جنبلاط الذي وقف ضد حماية سوريا للجبهة اللبنانية. لقد ورث وليد جنبلاط الزعامة أثر اغتيال والده وشدد على انه لا يشبهه، لكنه لا يمكن ان يدّعي تبنّي موقف الست نظيرة المحابي للفرنسيين حفاظاً على الإرث الجنبلاطي. وهو ليس الزعيم العصامي والعقلاني كمال جنبلاط الذي ابتعد عن الثنائيات المحلية ولم يتخلَّ عن خطه السياسي. وهو إن اكتشف متأخراً في خضم انعطافه السياسي أنه ابن كمال جنبلاط فلأسباب لا تتعلق بالصحوة السياسية بل بضرورات التغيير في المواقف السياسية لحمل الطائفة من موقع الى آخر.
فهذه الانعطافة السياسية الكبرى لا يكفي تبريرها بأخذ الثأر بل بالمنطق، فكمال جنبلاط كان كمن قال: «اذا لم يستقم دين محمد فيا سيوف خذيني»، في هذا المعنى هو ضمير وعقل المرحلة السياسية التي اغتيل فيها واقفاً وقفة عز، فهو الذي لم يتراجع عن مساره ولا خضع لأي ابتزاز اميركي أو عربي ولم يمد يده سوى لخالقه حين قال «ان ابن تسعة لا يموت ابن عشرة».
في انحداره لتخلّيه عن تاريخه وتبنّي مقولات الآخرين، يتبيّن أن جنبلاط، وبعكس محاولته اطلاق جعجع من السجن لاستعماله في وجه ميشال عون وارضاءً للغرب ونكايةً بالسوريين وحلفائهم، قد وقع أسير منطق القوات اللبنانية، فهنيئاً لجعجع استرجاع كرامته بعدما سُجن منطقه لمدة إحدى عشرة سنة، وهو، وإن استعمله تيار المستقبل غطاءً أو كيساً من رمل، استدرج جنبلاط الى منطقه حيث لم يجد هذا الأخير سوى هذا الخطاب لمجابهة مقاومة حزب الله.
* باحثة في الاجتماع السياسي