هاني محجوب *
كان المأمول من سعد الحريري أن يسير على خطى والده الشهيد الكبير، شهيد لبنان كلّه وليس شهيد 14 آذار، وبعضهم كان من ألد خصومه أو كان هو خصماً لهم، مثلاً سمير جعجع أو جماعة قرنة شهوان في غالب عهده.
كان المأمول من سعد الحريري أن يحافظ على ثوابت والده، وفي مقدمها وحدة لبنان ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوبه وأن يحافظ على الجهة العربية (السعودية، مصر، سوريا) التي كان الشهيد شديد الحرص ألاَ يبتعد عنها بل أن تكون سياسته محصلة لها. ومن يقرأ رفيق الحريري طوال تاريخ زعامته وقيادته ورئاسته لمجلس الوزراء على غير هذه الصورة يخطئ بحق الشهيد حتى لو كان وريثه الذي راح يبتعد عن ثوابته خطوة بعد خطوة.
فمثلاً مقارنة سريعة بين مواقف رفيق الحريري من المقاومة ومن مواجهة عدوان نيسان 1996 (وقد حمل معه الكثير من الدمار والمجازر) ومواقف الحريري الابن من عدوان تموز / آب 2006 يجد الفارق الشاسع سواء أكان في التعامل مع المقاومة ودعمها والقفز بها قفزة كبيرة إلى الأمام (تفاهم نيسان) أم في التعاطي مع وحدة الشعب اللبناني بعد العدوان. فقد خرج بعلاقة مع المقاومة أقوى وأشد متانة. واعتبر تفاهم نيسان نصراً لها وللبنان ولم يطمس النصر بسبب الدمار ومجزرة قانا. وسعى بعد فشل العدوان إلى تعزيز وحدة لبنان، ولا سيما وحدة المسلمين السنة والشيعة، لا إلى تغذية الاحتقان الطائفي، ومن يشك في ذلك فلينظر إلى ما آلت إليه الحال الراهنة في عهد تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري. فالواقع لا التصريحات هو الذي يقرر حقيقة السياسات.
وحتى على مستوى العلاقة العربية ولا سيما مع السعودية ومصر، يتأكد المراقب المدقق أن علاقة سعد الحريري مع أطراف 14 آذار وخطهم أقوى منها مع مصر والسعودية. والدليل موقف 14 آذار من المبادرة العربية السابقة التي أُحبطت لحساب سياسات خارجية أخرى. والدليل السريع الآخر هو المقارنة بين حرص السعودية ومصر على توافق مختلف الأطراف اللبنانية (انظر مثلاً الخطاب الأخير لوزير الخارجية السعودي في الأمم المتحدة)، فيما ذهبت قوى 14 آذار وعلى رأسها سعد الحريري (متأثراً بها لا مؤثراً فيها) إلى تعميق الشرخ الداخلي بما أوصل إلى حد القطيعة وربما دفع إلى أكثر من القطيعة (انظر مثلاً خطاب سمير جعجع وتصريحات وليد جنبلاط وبيان البريستول الأخير). فسعد الحريري لم يختلف عن والده في الانضمام إلى مثل هذه الجبهة فحسب وإنما أيضاً خضع لضغوطها ولم يلعب كوالده دوراً قيادياً.
صحيح أن رفيق الحريري رحمه الله كان له خطّه المتميز عن سواه بمن فيهم من تحالف معهم ولا نستثني أحداً، لكن يخطئ من يتصور أنه كان على خلاف دائم وعميق مع سوريا أو حزب الله أو كان يمكن أن يدفع الخلاف إلى هذا المستوى العدائي والقطيعة. وما كان من الممكن أن يتماهى مع خط 14 آذار.
إلى هذا، يُلحظ عند المقارنة بين سياسات الحريري الأب والحريري الابن، فارق بين الخط المتميز ولكن ضمن توافق عام وجبهة عريضة أغلب 14 آذار كانوا خارجها، وخط سعد الحريري المتمحور والمتماهي مع 14 آذار والذاهب إلى القطيعة مع المقاومة وحزب الله وغيرهما. فخط الحريري الأب خط تمايز ووحدة، وخط الابن خط مَحورة وانقسام وفرقة.
وبهذا يكون سعد الحريري قد ورث اسم رفيق الحريري وورث شعبيته (جزئياً) ولكنه لم يرث ثوابته ومحصلة خطّه السياسي ولا حرصه على توافق اللبنانيين ووحدتهم. وإذا ما استمر على هذا النهج وترك بعض أطراف 14 آذار الأكثر تطرّفاً وغلوّاً وانقسامية وولاء للخارج وابتعاداً عن الخط العربي يقودونه ويضعون بصماتهم على 14 آذار، وإذا انحاز إلى سياسات العداء للمقاومة أو السياسات التي وضعت هدفها نزع سلاح حزب الله وكانت وراء حرب العدوان الأخيرة كما اعترف أولمرت في 26/9/2006 بأنها حرب لنزع سلاح حزب الله إلى جانب أهداف أخرى، فإنّه سيفقد التناغم مع السياسات العربية التي لا تريد أن ترى عراقاً ثانياً في لبنان يسقط في «الفوضى الأميركية البنّاءة»، وسعد الحريري سيحدث طلاقاً مع سياسات والده وثوابته بل سيجد نفسه في خندق غير الخندق الذي كان والده فيه.
وأخيراً، إن الفارق الصارخ بين الأب الذي كانت بداياته الإسهام النشط في إخراج لبنان من الحرب الأهلية والانقسام، فيما بدايات الابن في المرحلة الراهنة (منذ اندلاع عدوان تموز / آب 2006) اتجهت إلى إدخال لبنان القطيعة الأهلية والانقسام. وهو ما عبّر عنه خطابه في الإفطار الذي دعا إليه في قريطم.
وإذا كان سعد الحريري سينكر هذه الملحوظات التي ترصد المسافة المتسعة يوماً بعد يوم بينه وبين أبيه فعليه أن يقارن بين مواقف جماهير السنّة العرب وفي كل العالم من حزب الله والمقاومة والنصر على العدوان، ومواقفه ومواقف تيار المستقبل، ليلحظ كم هو معزول عن عالم السنّة. وهو ما كان لوالده رحمه الله أن يقع فيه أو يسمح به. فقيادة سعد الحريري عزلت بمواقفها الأخيرة ذلك التيار في لبنان عن الرأي العام السنّي عربياً وإسلامياً. وإذا أراد سعد الحريري أن يرى الفارق والتناقض بينه وبين والده الشهيد، فليسمع النقد الذي وجّهه وليد جنبلاط إلى خطه السابق ليعرف كم هو بعيد عن والده. ومن ثمّ لا يستقيم أمره إلاّ إذا قدّم نقداً لتاريخ والده شبيهاً بالنقد الذي وجّهه جنبلاط لتاريخه.
* كاتب لبناني