بعد سقوط بغداد في 9 ابريل 2003 وتحول الاحتلال الأميركي لواقع تاريخي ملموس، واصل الإعلام الخليجي ترسيخ السردية التي بدأ التأسيس لها قبل الاحتلال والتي قوامها: الشيعة (ومن ورائهم إيران) والأكراد مُرحّبون بالاحتلال ثم متعاونون معه، والسُنة مقاومون له. أُضيف لها عملية «شيطنة إعلامية منظمة» لوضع إيران في موقع المتواطئ مع المحتل في العراق والساعي لتقسيمه.
اعتمدت هذه السردية على قوة تأثير وسائل الإعلام الخليجي، خصوصاً تلك التي تعاطت مع الشأن العراقي ظاهرياً من موقع الرافض للاحتلال وساعدت «مهنيتها» و»دعمها للمقاومة» آنذاك في تضليل ممنهج طاول حتى بعض النخب العربية المؤيدة للمقاومة. إننا هنا نحاول أن نُوصّف حالة، لتوضيح مدى تأثير الإعلام الخليجي في توجيه الرأي العام وتحويل سردياته التضليلية إلى «حقائق بديهية» غير قابلة للنقاش وصولاً لدحضها ونسف فعاليتها المستمرة، بعيداً من «الأحكام المسبقة» في التعاطي مع إيران سلباً أو إيجاباً.
دول الخليج ليس في مقدورها صياغة أي قرار من خارج سياق طبيعتها الوظيفية

في 11 ابريل 2003، أي بعد مرور يومين فقط من سقوط بغداد أعلن علي خامنئي في خطبة الجمعة بلسان عربي مبين: «... إن الحلم الذي يحلم به الأمريكان والانجليز سوف لن يتحقق، ذلك انه وفي كل مكان تقف المقاومة، بلغتها وأسلوبها، بوجه الاعتداء ولغته وسلوكه. ولن يكون الشعب العراقي المعروف بغيرته وحميته مُستثنى من هذه القاعدة... بالنسبة للحرب بين صدام وأميركا والانجليز اعتبرنا الطرفين ظالمين ولم نقدم أي عون لأي منهما... ولكننا لن نقف على الحياد في مجال الصراع بين المحتلين والشعب العراقي».
في هذه الخطبة التي ميّز فيها الخامنئي بين صدام ونظامه والشعب العراقي، رسم خطوطاً عريضة للاستراتيجية التي اعتمدتها إيران للتعامل مع الوضع الجديد المتمثل في وصول أميركا على حدودها كمقدمة لمشروع توسعي أكبر أهدافه إعادة تشكيل المنطقة. يُمكن لنا تلخيص هذه الاستراتيجية في عنوانين رئيسيين، أولاً: الحؤول دون قيام نظام يُعيد إنتاج «النموذج الصدامي» في العداء لإيران (هنا وجب التذكير أن مصطلح الفرس المجوس هو من إفرازات هذا النموذج) من خلال التحالفات مع القوى السياسية العراقية التي قررت الدخول في ما يُسمى «العملية السياسية» (نتذكر هنا التصريحات المتكررة التي كان يطلقها حازم الشعلان وزير الدفاع في الحكومة العراقية الانتقالية التي تشكلت بعد الاحتلال باعتبار إيران العدو الأول للعراق). ثانياً: استنزاف الاحتلال من خلال تقديم الدعم العسكري والتدريبي لفصائل عراقية، أبرزها كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، بل والانفتاح على فصائل مقاومة من بيئة إيديولوجية أخرى بمحاولة تقديم الدعم لها كما اعترف بذلك عبد الرحمن الجنابي، الناطق باسم المجلس السياسي للمقاومة العراقية لصحيفة «العرب» القطرية في شهر ديسمبر 2010 بأنهم في هذا المجلس الذي يضم مجموعة من الفصائل جاءتهم عروض مباشرة عن طريق سفير إيراني في بلد عربي وأخرى غير مباشرة للحوار و»الوصول إلى تفاهمات مشتركة وتقديم كل أشكال الدعم للمقاومة». تصريح الجنابي آنذاك، وإن جاء في معرض افتخاره برفض التعاون مع إيران التي «تلعب دوراً سلبياً في العراق»، إلا أنه يُبين أن سياسة إيران في دعم المقاومة العراقية لم تكن لتستثني أحداً على خلفية إيديولوجية أو مذهبية، علماً أن بعض قيادات هذا المجلس تتخذ من الدوحة وعمان مقراً لها.
ليس من الصعب البحث في مدى فعالية الدور الإيراني – ومن ورائه سوريا وحزب الله - في دعم مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق فالتقارير الأميركية العسكرية والصحافية وتصريحات وشهادات عدد من قادة الاحتلال توالت لتلقي الضوء على أداء حركات المقاومة العراقية الفعّال خصوصاً كتائب حزب الله وصولاً إلى إلحاق الهزيمة به. لكن الإعلام الخليجي قرّر أن يُرسّخ سرديته التضليلية بتجاهل مدروس بدقة لعمليات الكتائب المصورة والمنشورة على شبكة الانترنت أو في قنوات إعلامية مقاومة، مقابل تغطية لعمليات فصائل أخرى أقل فعالية أو ذات مشاريع تتقاطع مع الاحتلال في ضرب النسيج الاجتماعي للشعب العراقي كالقاعدة، تماماً كما تم تجاهل خطبة الخامنئي - كأعلى هيئة قيادية في إيران - في موازاة اجترار تصريحات لمسؤولين إيرانيين أقل مستوى جرى تقديمها ولا يزال «كأدلة قطعية» على «التعاون الإيراني-الأمريكي» ضد العراق.
يكفي أن نشير هنا إلى أن أسماء مثل قاسم سليماني أو «المجموعات الخاصة في العراق» أو حتى أسماء تابعة لحزب الله (اعترف السيد حسن نصر الله بعدها بسنوات بدور لحزب الله في دعم المقاومة العراقية) وردت في تقارير أميركية وفي شهادات قادة الاحتلال العسكريين عن دورها في إلحاق الضرر بالجيش الأميركي، لا نجد لها أثراً في الإعلام الخليجي إلا في معرض التشهير بها بزجّها في إطار الصراع الطائفي، خدمة لذات السردية التضليلية التي تريد إقناع العرب بأن إيران التي دعمت مقاومة الشعب العراقي ضد الاحتلال الأميركي حتى إلحاق الهزيمة به في 2011- وخروجه بصمت بعيداً من أي صخب إعلامي يجيد الأميركي صناعته – هي عدو للعراق وللعراقيين، تماماً كما تريد لنا أن نصدق أنها تسعى لتقسيمه، وهي التي تدخلت بكل ثقلها الى جانب نفس تلك القوى المقاومة التي هزمت المحتل في معركة مضمونها الأساس هو الحفاظ على وحدة العراق ضد امتداد داعش في غرب وشمال البلاد الذي اعتبره الإعلام الخليجي-التابع لنفس الدول التي انطلقت منها طائرات وقوات الاحتلال - ضمن نفس السردية التضليلية المستمرة: ثورة لعشائر العراق.
دول الخليج ليس في مقدورها صياغة أي قرار من خارج سياق طبيعتها الوظيفية في خدمة المشاريع الاستعمارية، هكذا يجب أن نفهم شراكتها الكاملة في احتلال دولة عربية بحجم العراق وهكذا أيضاً نفهم ترويجها لهذه السرديات التضليلية وترسيخها في أذهان المتلقين باعتبارها «يقينيات».
من الواجب أن يُفتح باب النقاش عن دور إيران في عراق ما بعد 2003 إلى اليوم ولكنه سيفتقد إلى أدنى شروط الموضوعية إذا ما انطلق من تلك «اليقينيات» نفسها التي رسّختها السردية التضليلية من قبيل: تواطؤ إيران مع أميركا على احتلال العراق، وسعيها إلى تقسيمه....الخ
لقد كانت إيران شريكة في إلحاق الهزيمة بالاحتلال الأميركي في العراق والتي كانت لها تداعيات استراتيجية كبرى على مشروعه الإمبراطوري، كما نجحت قوى حليفة لها في اختبار تاريخي لوطنيتها بل ولـ«شرعية» دخولها في ما يُسمى «العملية السياسية» أصلاً، من خلال توقيعها «اتفاقية أمنية» كانت أقل بكثير من طموح المحتل الأميركي، لكن القوى الوطنية العراقية التي تخوض اليوم معركة وطنية بامتياز ضد «داعش» هي أمام اختبار أكبر وأخطر يتعلق بإطلاق مصالحة وطنية حقيقية وصياغة مشروع وطني لكل أبناء العراق بمختلف مكوناته وإحداث القطيعة النهائية مع نظام المحاصصة الطائفية الحالي الذي أثبت الواقع منذ 2003 إلى اليوم أنه ليس إلا وصفة لتقسيم ضمني أو حرب أهلية كامنة.
* كاتب جزائري