أنيس نقاش *
لقد أصبح من نوافل القول ان استراتيجيا الولايات المتحدة، التي تقود هجوماً متعدد الأوجه على المنطقة، تسعى الى أكثر من هدف، وتمارس أكثر من أسلوب وأداة للوصول الى أهدافها. واذا لم يعد من الضروري تكرار تفصيل هذه الاهداف والادوات، فإن العودة إليها بشكل مختصر، هو شيء ضروري لمعرفة أبعاد ما ندعو إليه في هذه الاستراتيجيا الشاملة.
ان الهجمة الراهنة على المنطقة التي تأخذ أبشع وأوضح أشكالها بالهجوم العسكري، كما يحصل في العراق، لا تختصر وتكتفي بالهجوم العسكري. فقد أعلن قادة الهجمة الامبراطورية الاميركية على المنطقة ان المعركة لها أبعاد ثقافية وسياسية وفكرية واقتصادية الى جانب العسكرية. انها باختصار تريد إعادة صياغة المنطقة بأفكارها وهياكلها السياسية والاجتماعية والفكرية. انها سياسة إلحاق المناطق غير الملحقة بشبكة العولمة الجديدة من أجل ربطها وضرب ممانعتها.
ان أهم أداة اعادة صياغة المنطقة بأبعادها الفكرية والسياسية والاجتماعية تمر عبر تنفيذ سياسة الفوضى الخلاقة التي تسعى من خلالها الولايات المتحدة إلى ايجاد استقطابات متعددة، وأوهام للمصالح المتضاربة للطوائف والمذاهب المكونة لمنطقتنا. ونتيجة هذه الاستراتيجيا التي عرفت في الماضي بسياسة فرّق تسد، تُمارس اليوم على أكثر من صعيد، وأهم ما فيها انها تستهدف المفاهيم المكونة للمجتمع وعقائده أكثر مما تستهدف فقط تفريق الصفوف، كما كان في السياسات القديمة لاستراتيجيات فرق تسد، أو مجرد السيطرة على الارض والمواد الاولية. فهي تحوي كل هذا في آن واحد.
أمام كل هذه التحديات تُمارس على المنطقة سياسة إفقار وتجويع، ومحاولة لشراء الذمم، وإظهار أن الخلاص من حالة التخلف والضعف الاقتصادي والعلمي، لا يكون إلا بالتبعية لما يطرح العدو من حلول وبرامج سياسية واقتصادية. فالقوة المهاجمة المعتدية هي القاتلة وهي المنقذة في آن. وما على مجتمعاتنا الا الانصياع.
ان النموذج الفلسطيني، مما يحمل في جوف قضيته من بؤس المجتمع الدولي في ادارة الأزمات، وخيانة العدل والانصاف، والضعف امام الضغوط المتنوعة التي تحمل صفات الانتهازية طوراً وصفة المنفعة طوراً آخر، وصولاً الى التلازم العقيدي والعقدي في أكثر الأحوال من تبادل للمنفعة، هو خير دليل على اننا نواجه منطقاً مختلفاً عما ندين به، ومبادئ غريبة عما تحمله رسالاتنا المكونة لمجتمعاتنا وحضارتنا.
ان لنا في ما يحصل في العراق خير دليل على أهداف العدو ومراميه، في سياسة التفرقة والفوضى الخلاقة. ان لنا في العراق خير دليل على ان التجاذبات الطائفية والمذهبية، وسياسة الفرق والتفريق، سعياً لنيل مساعدة العدو والاحتماء به، ظناً منا أنه ناصر لطرف من مكونات مجتمعاتنا على المكونات أخرى، ما هي إلا سياسة عوراء غبية خرقاء ومجرمة في حق الأمة. وإن دلت على شيء فإنها تدل على ضعف مروّجيها ومتبنّيها من حيث الانتماء لتاريخ الأمة وأديانها وتاريخها، وخاصة انها تدل على جهل كبير في كيفية ادارة الصراعات المعقدة ذات الأبعاد المتعددة في عالم اليوم.
ولذلك نقول لقد آن لأصحاب خط الجاهلية الحمقاء الراهنة ان يترجّلوا عن مواقعهم، ويتوبوا عن جهلهم والجرائم التي ارتكبوها، من أجل ان يحل مكانهم أصحاب الفكر المستنير الذين يحيطون بكل أبعاد المؤامرة وخاصة الذين يدركون أهمية الوحدة وأهمية المناقبية وأهمية الرسالة الشاملة المستنهضة لهم، والرافعة للمجتمعات والأمم، لا المقسّمة لمكونات المجتمع، المقطّعة لأوصاله، العائدة به الى فرقة الجاهلية الاولى، ولو كانت تحمل الشعارات الخداعة التي تروّج لها مع قادة الحملة الهمجية على المنطقة.
لقد وقعت الواقعة في العراق، ولعلها تشكل ناقوس الخطر والانذار الأخير لمن لم يرد ان يفهم أبعاد الهجمة وخطرها علينا.
لقد وقعت الواقعة في لبنان أيضاً، ولو بشكل أقل حدة، ولكن القوى المعتدية، وكما نلاحظ، تسعى لتطويرها لمصلحتها. ومع ظهور تجار السياسة بالطوائف والمذاهب في هذا البلد، لا يمكن الا ان ندق ناقوس الخطر للإسراع إلى مواجهة الكارثة.
في فلسطين، مارس العدو الصهيوني أعتى أشكال القمع والتقتيل، سعياً إلى إخضاع الشعب الفلسطيني المجاهد ولم يفلح فلجأ مع ما يُعرف بالمجتمع الدولي جزافاً وتزويراً، إلى محاصرة الشعب الفلسطيني بنوع آخر من الابتزاز، بالتجويع والترهيب والترغيب بعدة وسائل، مورست من خلالها عملية شراء الذمم، وإيجاد قوى فاسدة مفسدة، مهزومة تسعى لهزيمة من لم يهزم بعد. كل ذلك من أجل دفع التجاذبات إلى الوصول إلى أعلى مستوى من التناقض يقود الى حرب أهلية.
أمام كل هذه الظواهر السلبية، كانت ظاهرة المقاومة في لبنان، شامخة عملاقة، لا بنصرها على العدو فقط بل بمناقبيتها وايمانها النابع من حضارة هذه الامة ومكوناتها الفكرية والعقائدية، ضاربة جذورها بين شعبها، مستمدة وعيها وقدرتها من الايمان والعلم والشعب الداعم لتحقق النصر الذي شاهدناه.
كذلك تقف سوريا، بوحدتها وصمودها وعدم تعرضها لما يتعرض له لبنان وفلسطين والعراق من تفسّخ وانقسام، ولما تُمارس فيها من تجارة السياسة ونخاسة المذهبية والطائفية بأبشع صورها، ومن ظاهرة الفساد والافساد والمال السياسي والاعلام المرتزق كرافعة للمؤامرة ومحرك لها. أمام كل هذا وكل هذه الأساليب والمخاطر تقف سوريا نموذجاً لم يضربه المرض ولم تنخره عوارض ما نشاهد في الساحات الاخرى، من انقسامات مذهبية وعرقية، على الاقل بوتيرة منخفضة جداً عما هو في البلدان التي ذكرناها..
ان المهمة الاولى والاهم الملقاة على عاتقنا اليوم، هي بلورة استراتيجيا واحدة شاملة في بلاد الشام التي تحمل في مكوناتها التاريخية والمجتمعية والحضارية، اضافة الى خريطة الصراع المركزية، المتمثلة بمثلث القضية المركزية فلسطين، والمقاومة النموذج في فلسطين ولبنان، والصمود والوحدة في سوريا. ان هذا المثلث الصحي والواعد هو الذي يستطيع ان ينقذ الامة من خلال تأدية الدور المأمول منه كرافعة للتحدي المواجه للأمة.
ان المطلوب التقدم من خلال البقعة الجغرافية المتناسكة والمتواصلة، ومن خلال التجربة المقاومة الواعية والمتواصلة والمتعاقبة والمترادفة، من أجل تعميمها وتداعمها في ما بينها ليرصّ بعضها صفوف بعض، من أجل تشكيل الجبهة الأصلب لمواجهة الهجمة العدوانية.
ان المطلوب ان نعود الى جوهر المكونات العقائدية المتنوّعة المتوحّدة المشكّلة لمجتمعاتنا، الملخّصة ب «تعالوا الى كلمة سواء». فهي لم تكن ولن تكون الا رحمة للعالمين بكل أشكالها وعناوينها. واذا هي كذلك بين الطوائف المختلفة فهي أولى بدفعنا الى الوحدة في المكون الاول والاكبر لمجتمعاتنا ألا وهو دين التوحيد والوحدة.
ان المطلوب هو مصالحة كبرى مع الايمان. فلم يعد هناك مجال أمام كل ما نشاهده من نتائج الوعي المؤمن وفعاليته على أرض الصراع مع المقاومة المؤمنة، وما نشاهده من هجمة تحمل روائح الحقد الديني المنحرف لقيادة الهجمة المعتدية. ان كل ذلك لا يترك لنا مجال إلا العودة الى مكامن القوة والوعي في أمتنا، لنشكل منها ومعها وفيها القوة والرفعة والارتقاء ولا مجال بعد اليوم لفكر ناكر للإيمان وبديهيات الوجود.
ان المطلوب هو حركة مجاهدة في الأبعاد المتكاملة، بالجهاد الأصغر، وهو قتال العدو، والجهاد الأكبر وهو جهاد بناء النفس والذات ومقومات الرفعة والتقدم. ان مجتمعاتنا تحتاج الى جهاد كسر الهيبة مقدمةً لجهاد كسر شوكة العدو الذي يؤدي بدوره الى الحرية والاستقلال. وإن الحرية الحقيقية والاستقلال الحقيقي هما مقدمة للتطور الذاتي والنهضة العامة المجتمعية والعلمية والحضارية.
ان هذه الاستراتيجيا الشاملة التي تشمل الجهاد بكل أبعاده. والجغرافيا الشاملة لكل ساحات الصراع المحتدمة والمرشحة للانفجار. تلك الاستراتيجيا التوحيدية النهضوية، التي لا تحمل في مضامينها الوحدوية النهضوية رسالة لمجتمعاتنا فقط بل للعالم بأكمله. هي استراتيجيا هجومية بمضامينها، دعوية جهادية بأساليبها، متمركزة في بلاد الشام كل بلاد الشام، بما تعني من محتوى حضاري تاريخي ومعنوي وسياسي. وأهم ما فيها انها تتركّز على بيت المقدس، وتشكل أكناف بيت المقدس. ان جوهر هذه المعركة هو الصراع بين الحق والباطل، بين الاستعمار والامبريالية، بين القوى التي تعبد القوة من دون رعاية للعدل والانصاف، ومعها القوى المتحالفة من بقايا الاستعمار القديم، وتعبد الرغبة في الهيمنة الجديدة، متحالفة مع العنصرية الصهيونية، آخر أشكال الاستعمار المباشر وأبشع أنواع الاستعمار المترافق مع التهجير والتدمير والتقتيل. ان في فلسطين وما يدور في جوهر صراعها من انها تحمل كل أنواع أشرار البشرية من عنصرية واستعمار وهمجية وشريعة الغاب المتفلتة من أي محاسبة أو قانون. ان كل ذلك يجعل من هذا الصراع صراعاً لمطهرة الانسانية جمعاء وخوض صراعها واجب على كل حر في العالم لا فقط على الفلسطينيين أو العرب والمسلمين.
ان استراتيجيتنا الشاملة عليها أيضاً ان تنقض على بقايا الاستعمار القديم وقراراته بتقسيم المنطقة، من خلال وحدة الجهاد والاجتهاد والصحوة والعمل التنموي وخاصة العمل الوحدوي في مجتمعاتنا المستهدفة في وحدتها الاجتماعية وسلامها الاهلي، وبالتالي في مستقبلها وآمالها.
انها استراتيجيا بلاد الشام قاطبة، محورها بيت المقدس، وساحتها أكناف بيت المقدس كساحة جغرافية لحركتها، وجوهر روحها وحدة المؤمنين كل المؤمنين الساعين الى كلمة سواء، وجوهر محركها عشق الحرية والتقدم والعدل والمساواة.
إن هذه إلا دعوة للخير في أمتي، وإن هي إلا مقدمة وللحديث صلة يا رفاق.
* منسق شبكة الأمان للدراسات الاستراتيجية