عمر كوش *
تأتي تصريحات الرئيس العراقي جلال طالباني، عن المطالبة بإطالة أمد الاحتلال الأميركي لسنوات عديدة، والحاجة إلى قواعد عسكرية أميركية لردع ما سمّاه تدخل الجيران في الشؤون العراقية، في وقت يعيش فيه العراق لحظات مصيرية حاسمة. وربما دخل مرحلة فاصلة ومؤثرة في مصير وحدته وناسه. فالمشهد في العراق المحتل لا يشي إلا بالمزيد من التدهور والخطورة، حيث تتسع الخلافات بشأن الفدرالية وإعادة النظر في الدستور، وينبئ الوضع الأمني الدموي بتوسيع دائرة الحرب الأهلية، فيما أمَرَ، منذ بعض الوقت، «رئيس» إقليم كردستان بإنزال العلم العراقي عن المؤسسات الرسمية، ولم يكتف بذلك، بل أخذ يهدد بانفصال الشمال عن العراق.
لا شك في أن طالباني الذي كان يوجّه خطابه إلى الأميركيين من خلال صحيفة «واشنطن بوست»، وإحدى الإذاعات الأميركية من نيويورك، يعي جيداً أنه يردد رغبات الإدارة الأميركية، وما تهدف إليه الأجندة غير المعلنة التي يسعى إلى تحقيقها البيت الأبيض بالرغم من الفشل والصعاب العديدة التي تلاقيها على الأرض. ويتزامن كل ذلك مع صدور تقرير خطير عن «البنتاغون» حول الوضع في العراق موجه إلى الكونغرس الأميركي، يشير للمرّة الأولى إلى احتمال تحول الصراع السياسي بين المسلحين في العراق إلى حرب طائفية بين الشيعة والسنة. وتعدّ هذه الإشارة في غاية الأهمية، لكونها تمثّل ــ لأول مرّة ــ تنبيهاً حقيقياً، صادراً عن أرفع جهاز عسكري في الولايات المتحدة الأميركية، ويعدّ الجهة المسؤولة عن إدارة الحرب في العراق وتنظيمها.
وليس جديداً الحديث عن الحرب الأهلية في العراق المحتل، بالرغم من إصرار كلّ من الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد على إنكارها، فقد كان يجري الحديث عنها في سياق المخاوف والتنبيهات، مع أنها باتت واقعاً معاشاً يزهق أرواح الآلاف من العراقيين منذ مدة ليست قصيرة، فالسيارات المفخخة طاولت الجوامع والحسينيات والمراقد في مختلف المناطق، وفتح العنف الطائفي الباب أمام تصفيات طائفية دموية، فيما يزداد يوماً بعد آخر الفرز المذهبي في المناطق المختلطة عبر تهجير عائلات عديدة من الجانبين وترحيلها. لكن تقرير «البنتاغون» اعترف أخيراً بوجود حرب طائفية، الأمر الذي يمثّل إشارة واضحة من طرف قيادة الاحتلال التي أشرفت على إشعال فتيل الاحتقان الأهلي ودفعه نحو الالتهاب والتصادم الشامل وخطّطت له.
غير أن المسكوت عنه في تصريحات طالباني هو التمهيد لإظهار الرغبة الأميركية في إطالة أمد الاحتلال لسنوات أخرى وإخراجها إلى العلن، فالفشل في ضبط الوضع العراقي أو احتوائه على الأقل، والتحذيرات العديدة من اندلاع حرب طائفية شاملة، لا يمنحان أحداً الفرصة للحديث عن رحيل مبكر لما يزيد على 140 ألف جندي أميركي. وتبدو في ظل هذا الوضع مطالبة العديد من القوى العراقية وبعض الأطراف الدولية بوضع جدول زمني لإنهاء الوجود الأجنبي، عديمة الفائدة والمعنى، خصوصاً أن الرئيس العراقي نفسه يطالب بعدم رحيل المحتل الأميركي الذي أخذ يفكر في رفع حجم قواته، وبالتالي لا بد من التساؤل: لمصلحة من إطالة أمد الاحتلال؟
اللافت في الأمر هو أن تصريحات طالباني تأتي في وقت تتسارع فيه التطورات السياسية والأمنية الجارية في العراق بطريقة مؤرقة، ويبدو أنها سائرة نحو نهايات دراماتيكية، حيث يتزايد الخوف أكثر من أي وقت مضى بشأن وقوع العراق في أتون حرب طائفية شاملة، وبالتالي، فإن وحدة العراق بات يحوم فوقها سيف التهديد بالتفتت والانقسام، وفي هذا السياق لا يقلّ الحديث عن إطالة أمد الاحتلال، في هذه المرحلة الملتهبة، خطورة عن صب الزيت على النار. في المقابل، تنتظر القيادة السياسية الكردية في كردستان اللحظة المناسبة لتعلن الاستقلال عن العراق الواقع بالفعل بعد الاحتلال الأميركي، ويؤكد ذلك كلام مسعود بارازاني عن أنه «لا يخاف من أحد»، إذا قرر إعلان الاستقلال، وعن عدم تردده في إعلان استقلال الإقليم «في أي دقيقة يرى البرلمان الكردي والشعب الكردي» أن مصلحته تقضي بذلك، الأمر الذي يبيّن أن الخطوات تتوالى في إطار مدروس ومتكامل. ولا تبتعد عن ذلك التصريحات المتكررة بشأن الفدراليات والأقاليم والكيانات الصغيرة، التي باتت تصدر تباعاً عن جهات مختلفة، وتشير إلى وجود بنية سياسية وثقافة سياسية، تعملان على تنمية مشاعر الانفصال في الشمال والجنوب والوسط والغرب وتقويتها، وكأن العراق صار جاهزاً للتقسيم. اليوم، وبعد تصريحات طالباني، تتأكد المعلومات التي وردت في وقت سابق، عن نية الإدارة الأميركي إقامة أربع أو ست قواعد عسكرية في العراق، ينتظر إنشاؤها «موافقة حكومة عراقية منتخبة». وسيصوّر الأمر كأنه صادر عن رغبة الرئاسة العراقية، وربما الحكومة أيضاً، وأن وجود الأميركيين هو تلبية لرغبة العراقيين، خصوصاً أن طالباني زعم في تصريحاته أن السنة والشيعة على السواء يريدون استمرار الاحتلال، وأن كردستان العراق سترحّب بإقامة قاعدتين فوق «أراضيها».
لا شك في أن ما يحدث في العراق، وما يجري للعراقيين، تقع مسؤوليته على كاهل الاحتلال الأميركي، وعلى «العراقيين الجدد» كذلك، أي على كاهل الاحتلال والمطالبين بإطالة أمد الاحتلال، من دون أن ننسى صقور الإدارة الأميركية الذين كانوا يريدون تحويل العراق إلى مجتمع يتواشج مع المشاريع الأميركية، أي قاعدة ارتكاز لمشاريعهم في المنطقة، ويطمحون إلى جعله نموذجاً سياسياً واقتصادياً، يقوم على الجمع بين النظام الفدرالي، الطائفي والإثني وبين مخالب اللبرالية الاقتصادية المنفلتة من عقالها.
*كاتب سوري