وائل عبد الفتاح *
تبدو مصر في مفترق طرق غامض. مرحلة بين مراحل. على محطة انتظار معجزة سياسية تنهي «حالة اللاسلم واللاحرب» بين النظام والمجتمع. هناك سجال راكد يتخذ أحياناً أشكالاً عنيفة حول: التغيير.
ليس هناك قوى تغيير حقيقية. وجودها ضعيف. صوتها خافت. وما زالت مصر أسيرة الصراع بين الجنرال والشيخ. بما يعني استمرار النظام الذي يحكم منذ تموز 1952 بشرعية المخلّص القادم من مؤسسة غير مدنية. عقل أبوي. وبدلة عسكرية في حلبة مصارعة مع عباءة المبشّر
بالجنة. كلاهما: الجنرال والشيخ يخفي لباسه الحقيقي تحت ملابسه الراهنة... المفصّلة على الموضة الجديدة: الدولة المدنية. سيناريو توريث جمال مبارك عزّز رغبة التمسك بالجنرال. فالجيش هو المؤسسة القوية الباقية من ميراث الدولة الحديثة. بينما الشيخ بديل محتمل. معارض يكسب شعبية من ترويج أسطورة اضطهاده على يد أجهزة الجنرال المتوحشة. يبدو كخلاص من حكم لا فكاك منه. وتبدو السياسة هنا صراعاً تراجيدياً بين أقدار لا يمكن تغييرها.
1 ــ الشارع والمسجد
هكذا يبدو حسن البنا في مئوية ميلاده «الحاكم المنتظر». يختاره الناس بديلاً من الجنرال العجوز محترف الفاشية الناعمة الذي منع السياسة ووصلت مؤسساته الى كفاءة متردية. فخرج الشيخ مروّجاً لتفسير سهل بأن الابتعاد عن الدين سبب الكوارث من هزيمة يونيو الى تحوّل الفساد الى أقوى مؤسسات الدولة. استفاد الشيخ من فشل الجنرال الذي وضع المجتمع كله في زنزانة كبيرة.. أدارها بمنطق الثكنات العسكرية. كان الجنرال يخطب في شعبه من الشرفات. ينظر إليه من أعلى.. بينما كان الشيخ في جوارهم في الجامع لحظة الصلاة والمساواة بين الجميع.
هزيمة الجنرال انتصار للشيخ. على رغم التشابه في طلب السمع والطاعة، فالجنرال يطلبها في الشارع والشيخ في المسجد. والهزيمة أخرجت الشيخ ليكون الشارع امتداداً للمسجد. استمرار حسن البنا بالقوة الراهنة هو ابن هزيمة الدولة الحديثة التي نافق فيها كل الجنرالات الحس الديني للشعب. يقولون إن شعب مصر متديّن وكأنه الوحيد بين شعوب الأرض أو كأن ذلك يعني معاملة خاصة تختلط فيها محبة الله ببناء الدولة، وساعتها سيظهر شعار مثل «الاسلام هو الحل». وهو شعار طائفي يشبه الدعايات التليفزيونية التي تلغي كل مميزات المنافس، بل تلغي المنافسة من أساسها. إنها إذاً أيام حسن البنا، الآن بعد 100 سنة من ميلاده هو ابن ثقافة ريفية.. عاش صدمة الحياة في الاسماعيلية المدينة الافرنجية.. على أرض مصرية. هناك كانت البيئة المناسبة لولادة تنظيم يبحث عن سند من 1400 سنة ليواجه الغرب المنتصر والمسيطر. تنظيم إحياء مجد قديم، زعيمه تربّى في مجال يمنح الواعظ الديني رتبة اجتماعية.. أبوه مأذون وساعاتي وخطيب مسجد القرية التي ترى مثلها الأعلى هو الإمام محمد عبده شيخ الأزهر المتمرد على موديلاته القديمة والثائر الذي لا يفصل بين الاستقلال عن الاستعمار وإصلاح الدين. لكن حسن البنا لم يصبح محمد عبده ولا هتلر أو موسوليني كما قالوا عنه في عز نجوميته. هو خليط من إمام يحاول علاج الدنيا بالدين وزعيم نازي يسيطر بالتنويم المغناطيسي على جماهير عمياء مكسورة الجناح تشعر بضعفها وترى تحققها في الذوبان تحت جناح الزعيم المهيمن. والبداية كما هي عادة التنظيمات الفاشية من خلال إعادة تربية الانسان ليبدو دخوله التنظيم ولادة جديدة. حسن البنا الشيخ الذي يرتدي بدلة مصنوعة من قماش مصري وطربوش.. أنشأ جمعية سمّاها «منع المحرّمات». اسم لا ينقصه الاغراء لجذب مراهقين يبحثون عن دور يشعرون به في المجتمع. أعضاء الجمعية كانوا يرسلون بخطابات تهديد لمن يرتكب منكراً.
التقى الحس الأخلاقي مع الحس السياسي الساخن في تظاهرات ثورة 1919 التي اشترك فيها حسن البنا وعمره لا يتجاوز 13 سنة. من هنا ارتبط حس المطاردة الأخلاقية بالثورة السياسية في إطار أوسع وهو البكاء على سقوط الخلافة الاسلامية في تركيا. ليس غريباً ان يظهر تنظيم الإخوان المسلمين من بيت حسن البنا في الاسماعيلية في التوقيت نفسه الذي كان الملك فؤاد يبحث عن طريقة يحقق به حلمه ليكون خليفة للمسلمين. البنا كان كاريزما دينية مؤثّرة جمهوره من عمال المعسكرات في منطقة القنال، هؤلاء هم نواة أول تنظيم سياسي في مصر يدعو إلى العودة إلى الإسلام. لم يحلم بمنصب خليفة المسلمين. لكنه منح القوة لفكرة البحث عن خليفة مصري.
2 ــ الحكم من القبر
حسن البنا محترف في فكرة تنظيمات التربية الرشيدة.وهو هنا يشبه كل التنظيمات الفاشية التي تقوم على فكرة الولاء.. والسمع والطاعة. أفكارها كلها عن الخير المطلق.. والشر المطلق. تقسّم العالم الى فريقين: مؤمنين وكفار.
تنظيمات لا تعترف بالحرية الشخصية ولا بثقافة ترى الفرد هو صانع التاريخ. هذا الموديل من التنظيمات عرفه العالم كله في لحظة من لحظات تطوره، لحظة الأزمة. لكن وبما أننا نعيش خارج الزمن السياسي فما زال الإخوان أقوى تنظيم سياسي. وما زال حسن البنا يحكم من القبر.
على رغم ان حسن البنا لم يصل الى الحكم. ويقولون انه كان زاهداً في المناصب. إلا ان تنظيمه ليس بالزهد نفسه. ويسعى الى السلطة، ولم يصلها إلا عندما منحته الثورة نصيباً من الحكومة.
التنظيم تحوّل من الوعظ الأخلاقي الى السياسة لأن السياسة ما زالت غير ناضجة وتختلط مع الأخلاق الى حد كبير. انه ليس حزباً سياسياً له برنامج محدد من أجل تحقيق استقرار ورخاء. لكنه تنظيم بوجهين: الأول، جماعة دعوة لديها خريطة تختبر النيات وترى انك هدف لدعوة اكتشاف الاسلام على طريقتها. والوجه الآخر حزب يمكن ان يفعل أي شيء لخطف مقعد أو منصب أو لتحقيق أغلبية تضمن الحكم. دور حسن البنا في اللعبة السياسية ما زال غامضاً. حصل على تبرّع بـ500 جنيه من شركة قناة السويس رمز الاستعمار وقتها، على رغم انه تنظيم يقول انه ضد الاحتلال وفي مواجهة الابتعاد عن تعاليم الاسلام. في تقرير السفارة البريطانية إشارة إلى تمويلات أخرى وصلت الجماعة من دول المحور: ألمانيا وإيطاليا ومن السفير الأفغاني.. والمفوضية الإيرانية.. ومن أعضاء بالمفوضية اليابانية.. وفي معلومات أخرى تلقى البنا تمويلاً من القصر ليخوض معارك انتخابية ضد الخصم التقليدي (الوفد).
هذه الأنظمة تمنح الاخوان شرعية. فالجنرالات فشلوا. وليس هذا فقط وإنما قتلوا المنافسين أو مشاريع المنافسين. حاربوهم بالسلاح التقليدي كنشر شائعات عن الكفر والخروج عن النص الاجتماعي. وقاموا بتأميم السياسة لهم وحدهم. ولم يبق أمام الناس سوى الشيخ.
* كاتب مصري