حسن عاصي *
حطت الحرب أوزارها وعادت الحياة الى دورتها واستعاد الوطن عافيته، لكن جدلاً بدأ ولم ينته: من بدأ تلك الحرب؟ من المسؤول عن نتائجها؟ واستطراداً حول هوية بعض الأفرقاء وأهوائهم ومشاربهم، وعن الدولة ومشروعها ووجهتها.
كان الأهم من ذلك كله الكلام على وحدة اللبنانيين ووحدة المجتمع اللبناني، تلك الوحدة التي شكلت أهم دعائم الصمود والنصر، والتي لولاها لما كان ذلك الصمود ولما تحقق ذلك النصر، ولكانت انقلبت الصورة بالكامل، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الكلام على تلك الوحدة هو كلام سياسي لتجميل الواقع، أم هناك حقاً وحدة حقيقية تجلّت وكانت السبب في ذلك الصمود والانتصار، وهي تشكل دائماً الضمانة لديمومة لبنان الوطن والشعب. للإجابة عن ذلك التساؤل، وبعيداً من الكلام السياسي ننطلق من الواقع، من عينات من المجتمع اللبناني، ومن ظواهر معاشة في ذلك المجتمع في الماضي والحاضر.
1ــ إبان الحرب اللبنانية المشؤومة، خلال حرب السنتين، وعام 1976 تحديداً، زاد تردّي الأوضاع الأمنية في بيروت وبات الوضع صعباً الى درجة ان معظم المؤسسات الاجتماعية والمدنية لم يعد في إمكانها تحمّل مسؤولياتها، وكانت من بين تلك المؤسسات مؤسسة الكفاءات، وهي مؤسسة اجتماعية تهتم برعاية شؤون الأطفال المعوقين واحتياجاتهم الخاصة، وتقع في المنطقة التي تعرف باسمها بين منطقتي بيروت الشرقية وبيروت الغربية. لم يعد في إمكان تلك المؤسسة آنذاك تحمّل مسؤولية الاطفال المعوقين الذين كانت تأويهم، من الناحية الأمنية ولا من ناحية توفير الغذاء وسائر الحاجيات، مما حدا بإدارتها على الإعلان الى أولياء الطلبة بالمبادرة الى تسلّم أولادهم. وأمام صعوبة تنقل الناس العاديين، وخاصة ان المؤسسة تقع في منطقة تشكل خط تماس بين الشرقية والغربية، جمعت الصدف رجلي دين: مسلم أتى من المنطقة الغربية، ومسيحي أتى من المنطقة الشرقية، التقيا في صالون المؤسسة حيث أتى كل منهما لتسلّم طالب كلّف باصطحابه. جلس رجلا الدين كل منهما قبالة الآخر من دون ان ينبس أي منهم ببنت شفة، بانتظار ان يتم تجهيز أغراض الطالبين، ولما تسلّم الطالبان المعوقان أغراضهما، وهمّا بالرحيل، تعانقا بحرارة وودّع بعضهما الآخر في شكل مؤثّر ولافت مما دفع أحد رجلي الدين الى ان يبادر زميله: من المعاق؟ هؤلاء الطفلان اللذان يتعانقان بتلك العاطفة الجياشة والنبيلة والصادقة؟ أم نحن الذين يتأبط كل منا ربه، لكن الأهواء دنّست إيماننا والمشارب لطّخت إنسانيتنا، فقد جلسنا قبالة بعضنا ولم نلق حتى التحية.
2ــ حكاية ثانية من جملة الحكايا التي شاعت إبان الحرب الاخيرة، أوردتها جريدة الأخبار (عدد 7، تاريخ 21 آب 2006، ص 15)، مفادها ان شاباً لبنانياً من مقاتلي القوات اللبنانية سابقاً، من الشباب المتحمّسين بدافع الحرص على «أمن المجتمع المسيحي» آنذاك، شارك في حرب الجبل، لكنه ومنذ ذلك الزمن آثر الاستقالة من النضال، وبعيداً من التزام العمل السياسي انصرف الى بناء أسرة، وهذا ما كان له حيث صارت له أسرة مؤلفة من أربعة أولاد أكبرهم في الرابعة عشرة من عمره، ونأى عن كل مشاغله السياسية السابقة، على رغم محاولات رفاق السلاح والنضال أيام زمان إقناعه بالعودة الى صفوفهم ولكن من دون نتيجة. المفاجأة كانت يوم نشبت الحرب الاخيرة، إذ إن «المقاتل المسيحي العتيق، ومنذ اللحظة الاولى للحرب انتابته حماسة شديدة للسيد حسن نصر الله أشبه بالعشق حيث بات يرى فيه قائداً عملاقاً، ولم يقف الامر عند ذلك الحد، وانما نزل الى القبو في منزله في تنورين، وحمل جعبته وامتشق بندقيته المزيتة، حيث طلى الكلمات العبرية عليه بحبر أزرق، وأعلن جهوزيته للذهاب الى الجنوب للمشاركة في القتال مع المقاومة، ولم يهمل بالطبع مصير أطفاله الاربعة، حيث دبر كل شيء من الإرث الى بوليصة التأمين على الحياة، وعلى رغم يقينه بأنه اذا ما استشهد فسترعى المقاومة أسرته، ضمن رعايتها لعوائل الشهداء وتدبير شؤونهم. أولئك هم اللبنانيون على حقيقتهم اذا ما نشأوا على سجيتهم، أو عادوا الى أنفسهم، تجمعهم القيم والمبادئ والمفاهيم، وتكون الألفة والمحبة، وذلك هو لبنان الذي به نتغنى، وبالانتماء إليه نعتز ونفتخر، لبنان القيم، لبنان المبادئ والسجايا. هذه القيم والمبادىء والسجايا هي عينها التي تأصلت في وجدان أبطال المقاومة وتوهّجت في خواطرهم لترتقي الى حد التفاني في سبيل الوطن وبذل الغالي والنفيس من أجله، وهو ما شهده العالم وباركته الدنيا في فرسان المقاومة، في ذلك البلاء الحسن الذي باركه القاصي والداني.
* أستاذ جامعي