ساسين عساف *
الملاحظة الأولى والتساؤل الأول:
مستقبل المقاومة لا يفهم ولا يبحث فيه ولا يسأل عنه في ضوء عمرها الزمني.. فهي مرحلة في تاريخ العرب ومقاومتهم، نوعية وتطويرية وشاهد متابعة واستمرار.. هذه الرؤية تسقط من حسابها عامل الزمن السلبي.. فالتقادم الزمني كفيل بتصعيد المقاومة. وهذا ما يحدو على التساؤل: هل لتاريخ القضايا ولو محقة سياق حتمي؟ هل طرف واحد من أطراف الصراع على قضية ما يقرّر اتجاه التاريخ؟ هل وجوه الحق في قضية ما توفر لها أرجحية البقاء حية في التاريخ؟ هل الباطل زائل حتماً من التاريخ؟ أليس التاريخ مليئاً بجثث القضايا المحقة؟ أتساءل وفهمي للتاريخ ليس فهماً لاهوتياً..
الملاحظة الثانية والتساؤل الثاني:
شأن المقاومة في ما يتصل بالعامل الزمني وبحركة عملياتها المتفاوتة بين التصعيد والتراجع هو شأن جميع حروب التحرر الوطني في العالم ومنها حرب التحرر الوطني الجزائرية وحرب التحرر الوطني الفييتنامية.. من حروب التحرر الوطني تُستنتج قوانين عامة: حتمية هزيمة الجيوش النظامية المحتلة، استحالة فرض حلول عسكرية وسحق المقاومة وابادة الشعب، المفاوضات، في ظل استمرار المقاومة، هي الطريق الى الحلول السياسية. أخذ العبر من التاريخ وتجارب الشعوب أمر جيد ومطلوب، أما الاقتياس عليه وعليها بالاستحضار والمقارنة وارتقاب النتائج الحتمية فأمر يستدعي الكثير من تأمّل المعطيات المتباينة والمتفارقة بين حدث وآخر وتجربة وأخرى.
فالتفسير الواحدي للتاريخ مصداق لقانون حتمياته واتجاهاته الثابتة. أما التفسير المتعدد للتاريخ فمصداق لقانون احتمالاته واتجاهاته المتحولة.
وعليه نتساءل: هل المقاومة هي فعلاً حرب تحرر وطني؟
ألا تنطلق حرب التحرر الوطني من إعادة الصراع الى مقولاته الأساسية؟ هل المقاومة الفلسطينية مثلاً تسعى الى تحرير كل التراب الفلسطيني من البحر الى النهر؟ هل طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين ولبنان والعراق هي نفسها طبيعة المشروع الاميركي في فييتنام والمشروع الفرنسي في الجزائر؟ هل تتوافر للمقاومة العربية العوامل الخارجية المؤاتية كتلك التي توافرت لسواها؟
من يفاوض من؟ وهل الحلول السياسية هي الطريق، ولو في ظل المقاومة، الى تحرير فلسطين ولبنان والعراق؟ من يفاوض من؟ هذا ومن يفاوض المحتل متهم بأنه يريد رأس المقاومة! هذا السؤال يفرض اعترافاً عربياً عاماً بحق المقاومة في الاستمرار. هل ثمة معطيات واقعية وملموسة تشير الى ان المسألة التفاوضية يمكن ان تذهب في هذا الاتجاه؟ أوليس من ضرورات الراهن العربي انشاء هيئة قومية جامعة وطارئة لقيادة حوار قومي لمقاومة الاحتلال؟
الملاحظة الثالثة والتساؤل الثالث:
المقاومة تحاول إنقاذ العرب من تداعيات الحادي عشر من أيلول والحرب على «الإرهاب». هذا الكلام ينطوي على الحقيقة المنظور إليها من موقع الرافض لهذه الحرب. ولكن ثمة حقيقة أخرى ينطوي عليها كلام يقول إن هذه الحرب هي التي ستنقذ العرب من «الإرهابيين» وتجلب لهم الحريات والديموقراطية، هذا الكلام يتجاهل ان المقاومة هي نتيجة السياسات الاميركية الصهيونية الساعية الى إخضاع العرب ودفعهم الى التنازل عن الحق. فجرائم الإرهاب الاميركي الصهيوني العنصري متمادية فوق أرض فلسطين والعراق ولبنان.. والمقاومة هي لمواجهة هذا الارهاب وجرائمه المتمادية. ما زجّ العرب في أوضاع مدمرة أمران: عنصرية الكيان الصهيوني وإرهابه، ورضوخ بعض العرب لهذا الإرهاب.
الملاحظة الرابعة والتساؤل الرابع:
استقراء مستقبل المقاومة ينطلق من إنجازاتها، وهي كثيرة:
ــ إسقاط المخطط الصهيوني بفرض الحل الاستسلامي. والسؤال: أليست حكومات الكيان نابذة أصلاً للشعب الفلسطيني قبل ان تكون رافضة لأي حل معه مهما كانت طبيعته؟
ــ إفشال المخطط الأميركي من وراء احتلال العراق.
ــ إجـــــهاض الـــــــــشـــــــرق الأوسط الجديد من لبنان.
ــ اتخاذ المقاومة طابع حرب تحرر وطني...
ــ إدخال الكيان الصهيوني في أزمة مصير وجودية (فوضى، ذعر، هجرة معاكسة، استعادة جنسيات، رفض الخدمة العسكرية، فقدان الثقة بمستقبل الكيان، انهيار مجتمعي وتفكّك، خسائر اقتصادية..) والسؤال: أليست هذه العوارض حالات طبيعية في مجتمع غير عضوي وكيان مصطنع يخوض صراعاً وجودياً منذ قيامه؟ أما أن يكون الكيان في أزمة وجود ومصير بفعل غير فعل المقاومة، فمسألة يعوزها الكثير من التدقيق.. ما أوجد هذا الكيان وضمن استمراره هو إرادة دولية استعمارية لها مصالحها الاستراتيجية في الوطن العربي وفي ما يتعدى حدوده الى منطقة الشرق الاوسط والادنى الكبير. الكيان الصهيوني لم يقم بإرادة ذاتية ولن يستمر إلا بإرادة الاستعمار الدولي الجديد.. مقاومة الاستعمار الاميركي الجديد ومقاومة الكيان الصهيوني فعلان متكاملان ما يدفع الى التساؤل: أليس هذا الكيان محكوماً بمؤسسة صهيونية واحدة هي الجيش تدعمها الصهيونية العالمية المتجسدة حالياً بإدارة بوش؟ مَن من قيادات الكيان العنصري وأحزابه قاد ومن منهم لم يقد حروب التدمير والاقتلاع والترحيل والقتل الجماعي؟ أولمرت وأمثاله لم يتجاوزوا الآخرين في قيادة حروب الابادة العنصرية، وعليه نقول: إن أولمرت ولد ونشأ وتربّى في أحضان المجتمع الصهيوني الذي هو فعل إرهابي بالتكوّن الغاصب والمستمر فوق أرض فلسطين بإرادة أميركية متصهينة.
الملاحظة الخامسة والتساؤل الخامس:
بعد الحادي عشر من أيلول، الكيان الصهيوني يستثمر «الحرب على الارهاب» محاولاً إقناع العالم باعتبار المقاومة إرهاباً وباعتباره مدافعاً عن نفسه ضد الارهاب وحاملاً الادارة الاميركية على تبنّي طروحاته وعلى إدراج «حماس» و«الجهاد» و«حزب الله» في لائحة المنظمات الارهابية ومستنفراً العالم ضد العرب والاسلام.. الحقائق في هذا الكلام جلية ومرئية.. ولكنها لا تغني عن طرح التساؤل الآتي: هل الادارة الاميركية هي في موقع من هو في حاجة الى إقناع بتبنّي سياسة الكيان الصهيوني؟ أصحيح القول ان اميركا لا تمتلك سياسة في هذه المنطقة سوى تبنّي ما ترسمه لها حكومات الكيان الصهيوني؟ هل من الصواب الاعتقاد بأن اميركا هي مستعمرة صهيونية؟ أليست الولايات المتحدة هي التي استفزت العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ضد العرب والاسلام؟ أولم نقرأ كتابات منظّريها وإصدارات مراكز بحوثها ودراساتها الاستراتيجية التي تصطنع الاسلام عدواً بديلاً من الشيوعية؟
وعليه نسأل: أسببٌ هو الحادي عشر من أيلول أم نتيجة؟
إن مراجعة تاريخية سريعة لسياسات الولايات المتحدة منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم تظهر كمّ العداوات المتراكم في تلك السياسات إزاء قضايانا القومية وبخاصة قضية فلسطين وزد عليها اليوم قضية العراق وقضية لبنان.
أما نظرية توريطها من حكومات الكيان الصهيوني في حربها على العرب والمسلمين فهي من دون أساس أو مرتكز موضوعي. فالولايات المتحدة دولة عظمى لها مصالحها الاستراتيجية في هذه المنطقة والكيان الصهيوني يقوم بدور محدد في تأمين هذه المصالح، هذا ما أظهرته حرب الثاني عشر الاميركية/الاسرائيلية على لبنان.. وعليه، العرب هم في دائرة الاستهداف الاميركي قبل الحادي عشر من أيلول.. واميركا لم تكن يوماً في انتظار من يورّطها في الحرب عليهم..
الملاحظة السادسة والتساؤل السادس:
الوطن العربي يتعرض لمحاولات تفكيك واعادة تركيب على قاعدة المزيد من التفكيك ضمانة بقاء المشروع الصهيوني على قيد الحياة وتحطيماً للمقاومة وخط الممانعة.. في هذا الاطار يفهم الآتي:
ــ الحرب على العراق واحتلاله وتهديده بحرب أهلية.. ومن ثم تخريب لبنان وسوريا تباعاً..
ــ الحملة الصهيونية على ايران لتعطيل قدرتها على التضامن مع فلسطين وسوريا ولبنان.
والغرض من هذه التهديدات والحملات فرض الحلول التصفوية والإجهاز النهائي على العرب وقضاياهم وحقهم في الوحدة والتحرير.
هذا الجانب التحليلي الاستشرافي في قراءة المشهد العام برؤية شاملة يضعنا أمام تساؤلات جمة: تفكيك الوطن العربي المفكك أصلاً على قاعدة المزيد من التفكيك مشروع صهيوني قديم ومتجدد.. يستعاد الكلام عليه في حالات ينسدّ فيها الأفق أمام تسوية الصراع العربي/الصهيوني بالطرق السلمية، وفي حالات التصادم بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح بعض الدول العربية الأساسية في إدارة هذا الصراع.. أما اليوم والدول العربية المعنية مباشرة بالصراع موزعة بين موقِّع مع الكيان الصهيوني معاهدة سلام وبين من عمل ويعمل على خط العودة الى المفاوضات بين سلطة أبو مازن وحكومة الكيان على حساب الديموقراطية التي جاءت بحماس الى السلطة فضلاً عن سعي رايس الى بناء جسر تواصل بين الكيان الصهيوني وما سمّته خط الاعتدال العربي فالأفق ينذر بحروب عربية داخلية يستعاد فيها الكلام على حرب مفتوحة بين أهل الاعتدال وأهل التطرف.
أليس هذا الكلام الصهيوني القديم المتجدد هو لإحداث الفتن الداخلية في الأقطار والأمة وإنعاش المشاريع الخاصة بالأقليات الدينية والمذهبية وإحباط مشروع النهوض القومي الوحدوي؟ ألم يكن هذا الكلام على التفكيك ليقع في لحظته التاريخية المناسبة لو انه جاء والدول العربية في مواجهة قومية واحدة دعماً للمقاومة وضرباً للمصالح الاميركية؟
أما والواقع هو غير هذا ألا يجدر بنا ان نتنبّه الى خطورة الذهاب بعيداً في تخيّلات هي من صنع أعدائنا للنأي بنا عن ثوابتنا القومية؟..
ماذا قدمت الدول المعنية بمخطط التفكيك؟ ألم توقع المقاومة بعض أنظمة تلك الدول وحكامها في حرج وارتباك ومن ثم التبرّؤ منها وادانة عملياتها ومغامراتها؟
ألم نسمع وألم نقرأ في سياسة هؤلاء ان المقاومة في لبنان مغامرة، وفي العراق انتحار وارهاب وفي فلسطين تخريب للحلول السلمية؟
ان بقاء المشروع الصهيوني على قيد الحياة يستمد ضمانه من بقاء تلك الأنظمة وهؤلاء الحكام وليس بالمزيد من تفكيك المفكك..
هنا نتساءل ونخشى ان يستغل الكلام على التفكيك لتشديد القبضة على الشعوب تمديداً لقانون الطوارئ وتنشيطاً لآليات الأنظمة الأمنية..
في أي حال اذا كانت المخاطر جدية على الوحدات القطرية فلن تقف دونها أنظمة من هذا النوع وحكام من هذا القبيل. فضامن الوحدة هو شعب حر لا مكموم ولا مغلول.
الملاحظة السابعة والتساؤل السابع:
المقاومة لن تتوقف على الرغم من الصعوبات التي تواجهها وذلك للأسباب الآتية: خيار الشعب العربي صمود ومواجهة، خيار اميركا واسرائيل يعزز المقاومة، خيار التفكيك يطلق مقاومة قومية شاملة..
هذه أسباب مباشرة وضامنة لاستمرارية المقاومة. ولكن أليس مستقبل المقاومة منشرطاً كذلك بما هو أبعد من هذه الأسباب وأشمل؟
ــ أليس منشرطاً بقومية الصراع وشموليته وإعادة الاعتبار لمفهوم الأمن القومي العربي؟
ــ أليس منشرطاً بحماية الوحدة الوطنية في فلسطين ولبنان والعراق؟
ــ أليس منشرطاً بانسداد تام لأفق التسوية الشاملة والعادلة؟
ــ أليس منشرطاً بتجدد مشروع النهوض القومي العربي الوحدوي؟
ــ أليس منشرطاً بتعديل موازين القوى الدولية وإنقاذ العالم من إرادة الولايات المتحدة في التسيّد المطلق على ثرواته وشعوبه؟
هـــــذه الــــــشروط قد لا تتوافر في المدى المنظور ولكن في حال توافرها تضع مقاومة الشعب العربي قاب قوسين من تحقيق أهدافها..
* عضو أمانة المؤتمر القومي العربي