غسان الشامي*
إليك السؤال التالي: إذا عرفت أن تفرّق بشكل سوسيولوجي بين العرب العاربة والعرب المستعربة فسوف تربح نعمة الاطلاع على العرب «المعتدلة»؟!.
متعة السؤال تأتي من زيارة رايس التجميعية إلى المنطقة لمتابعة الوضع في الشرق الأوسط، ونقمة الجواب أن الزيارة التي طبخت بسرعة فائقة خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة تحمل في ثناياها ملمحاً فكرياً، وهو أمر مستحبات الدكتورة رايس، ينحو إلى تجميع العرب المعتدلة في وجه العرب المتطرفة. هذه الرؤيا الخلاصية جاءت بعد بوار بضاعة الشرق الأوسط الجديد والكبير، الذي تبين أن نسيجه من نوع رديء فقد «كشّ» بعد غسيل الجيش الإسرائيلي في معركته الأميركية إثر حرب تموز، وبعدما أعلنت رايس في غرّة الحرب أن لبنان سيكون مسقط رأس هذا الشرق، وخوفاً من أن يصبح مستقبل الأفكار الكبرى لعقائديي البيت الأبيض مثل مستقبل دبابة الميركافا، كان لا بد من هذه الزيارة وتأطير المعتدلين على خط عربات واحد ومكان التجميع في القاهرة. صحيح أن رايس طوّرت آليات عمل لفكرة مستشارها فيليب زليكوف للملمة أشلاء المعتدلين ورسم سمتٍ سياسي وعملاني لتحركهم، لكن ذلك ناجم أيضاً من إحساس عميق بالإخفاقات الأميركية من بطاح إقليم هلمند في أفغانستان إلى أهوار العراق، وما سببته هذه الإخفاقات من ارتدادات على الإدارة الحاكمة في واشنطن، فاقمتها حرب تموز، على رغم المكابرة الرسمية، لكن منعكساتها على الأجندة الأميركية تظهر عبر خطاب النبرة العالية، وقرع طبول انتصار إسرائيلي افتراضي، والهرولة لالتقاط بقايا الحلفاء في المنطقة العربية، وليس كلام رايس عن حزب الله والشيعة، وعن دعم المعتدلين في المنطقة إلاّ أحد مظاهر الخوف من تحطم رقعة الشطرنج المحافظة. من الديموقراطية إلى نقيضها.. هذه هي السياسة الجديدة، فإذا كان مدير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى روبرت ساتلوف يعترف بأن الإدارة الأميركية تحركت بسرعة في البداية لدعم الانتخابات في العراق وفلسطين ومصر، لكن هذه السرعة أنجبت وليداً غير مرغوب فيه، لذلك يستدرك أنه «قبل الذهاب لصندوقة الاقتراع يجب بناء المؤسسات لجيل كامل»، وعليه فإن على أميركا «دعم التوجهات المعتدلة» ما يعني دعم الإدارات الصديقة الحاكمة، بعجرِها وبجرِها وتوريثها وملكياتها وجمهورياتها المتملّكة. لكن المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط أمي هوارثون تنعى في شكل أو آخر مشروع الشرق الأوسط الجديد ودمقرطته، وتعتبر أن هذا الخطاب سيتحول إلى شكل لفظي من دون أي مضمون عملي تحته لأن «السياسات الأميركية لن تكون قوية أو جادة كما كانت قبل 12 تموز 2006»، أي إن حرب لبنان الأخيرة بدّلت في معادلات كثيرة، لا يريد أن يراها بعض العرب وبعض بهلوانيي السياسة اللبنانية الذين ما زالوا يصرّون على أنها كانت مغامرة غير محسوبة، أما المحسوب والمرغوب فهو ما ستأتي به رايس، وترى هوارثون أن الوضع في لبنان «هش للغاية ومن الممكن أن يتحول بسهولة» فهل العجلة في اللقاء القاهري لوقف الهشاشة؟.. مع أنها من الشيطان. من دون ريب قاربت عملية الدمقرطة الأميركية النموذج البلاغي، الذي فاتته استراتيجيا واضحة المعالم، لأن الحراك اعتمد على حتميات انتصار أميركا وحلفائها في أفغانستان والعراق وفلسطين وأخيراً في لبنان، بيد أن الحصاد المرّ في ميدان العمليات حتّم الإسراع في تبديل عنوان الحملة، وتظهير حلفاء كان يجب في مرحلة سابقة أن يبقى بعضهم مكتوماً، فعلى سبيل المثال إذا خسرت مصر دورها في غزة فأي دور إقليمي لها؟
من نتائج إسراع الدكتورة كوندي إلى المنطقة وكأنها شرطي يبحث عن مخالفة، واختراع تعبير «الاعتدال» لإطلاقه على مجموعة الدول العربية المذكورة، أن يعطي معكوس ما رُسم له، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن البعض يحلو له نعت زليكوف كبير مستشاري رايس بـ«الثرثار» وأن «وصاياه العشر» في محاضرته بمعهد واشنطن ليست سوى إرهاصات استلّها من ارتكاس السياسة الخارجية الأميركية، وانطلق في بدايتها من مقاربة تلمودية بين الرابي وتلميذه، وهذه لن تفيد قطعاً في تسويق مفهوم الاعتدال الذي بات موازياً لمفهوم العمالة في الشارع العربي، فأن تكون معتدلاً مع إسرائيل، بات بعد حرب تموز وما يحصل مع حماس في فلسطين، يعني مزيداً من الانصياع لتل أبيب والتخلي عن الحقوق العربية.. وهنا تكون واشنطن فاقمت الإساءة لحلفائها «المعتدلين». لا شك في أن مستقبل رايس السياسي على المحك، فالدكتورة الشاطرة في إقناع تلاميذها الجامعيين بمقررات اختصاصها في العلاقات الأميركية ــ الروسية، أدركت أن الشرق الأدنى الدافئ يقترب من السخونة، وربما الغليان، وأن تجربة التفاؤل النظري مطلع العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي حاولت نشر عدواه بين «معتدليها» تحوّل إلى إبرة في وسادة المخطط الأميركي برمته، لذلك تتنقل بسرعة قياسية بين الأطراف التي تريد تحشيدها، من البارزاني في شمال العراق إلى النموذج المحبب في الاعتدال حميد قرضاي وما بينهما وعلى تخومهما في الجغرافيا التي سميت الشرق الأوسط الكبير.. وضمنهما تقبّل التعازي بديموقراطية صندوقة الاقتراع.. ومفاعيلها المقلقة. ويبدو كلام مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (K(csis جون الترمان يفي نظرياً بالغرض، حيث إن رأياً متنامياً في أميركا يرى أنه بعد أحداث 11 أيلول انصبّ مجهود واشنطن نحو «نقل السلطة من حلفائنا في الشرق الأوسط إلى أعدائنا». ماذا بين جولة رايس وكلام شيمون بيريز في محاضرته (الحرب ضد حزب الله والمعركة ضد حماس) في معهد واشنطن قبل «وقف الأعمال العدائية» على لبنان في آب الفائت بثلاثة أيام؟! فقد تحدث ثعلب إسرائيل العتيق عن الصعوبات التي تعترض تل أبيب، وأهمها الجغرافيا المتمثلة بالحرب على جبهتين في الشمال والجنوب (حزب الله ــ حماس) وأن دولته لم تعد تحارب دولاً.. بل أطرافاً، مطالباً أميركا بتفعيل سياسة العصا والجزرة عبر حلفائها في المنطقة. ويتبدى هذا الطلب في إسقاط حكومة حماس وتنشيف مصادر مالها العربي لمصلحة الأوسلويين، وفي دعم معتدلين متنوعين بياقات عنق مختلفة في لبنان لتحجيم المقاومة ونزع أظافرها، وعصير الجزر ينسحب على دمشق.. وإلاّ. الغائب عن الأجندة السابقة هو الوصية السابعة من وصايا زليكوف التي حملتها رايس معها، أي إيران، لأنها محورية في البنيان المستقبلي الإسرا ـ أميركي، على اعتبار أنها تمثّل التهديد المباشر للمعتدلين العرب والإسرائيليين على السواء. لكن هل من أفق لنجاح هذا «الاعتدال» في أن يشكل رافعة لأحلام المس كوندي وإدارتها؟ أعتقد بأن المنطقة ستشهد هزات، من بينها هزة العرب المعتدلة.. لأنها ترادف تعبير العرب المستسلمة.
*صحافي