إيلي نجم *
تميّزت الإدارة الأميركيّة التي تعمل مع الرئيس جورج دبليو بوش، بهذا «الكوكتيل» الإيديولوجيّ الذي جمع فيه الرئيس المحافظين الجدد والأصوليّين المسيحيّين البروتستانت. وكان بعضهم قد تتلمذ على يد ألان بلوم Allan Bloom الذي تتلمذ بدوره على يد الفيلسوف اليهوديّ من أصل ألمانيّ ليو شتراوس Leo Strauss، وبَسَّطَ أفكار هذا الأخير بحيث جعلها في متناول الجمهور. فماذا عن الإيديولوجيا التي روّج لها المعلّمان شتراوس وبلوم، والتي استلهمها المحافظون الجدد في أميركا؟
يقول فرنسيس فوكوياما، وهو أحد المحافظين الجدد والأميركيّ من أصل يابانيّ الذي طبقت شهرته الآفاق في التسعينيّات بفضل مؤلَّفه «نهاية التاريخ»، إنّ «المحافظين الجدد لا يودّون البتّة الدفاع عن الوضع السائد والقائم على التراتبيّة والتقليد، وعلى نظرة تشاؤميّة للطبيعة البشريّة» (وول ستريت جورنال بتاريخ 24 كانون الأوّل، 2002). في الواقع أنّ المحافظين الجدد مقتنعون بتفوّق النموذج الديموقراطيّ الأميركيّ على أيّ نظام سياسيّ يختلف عنه أو يماثله، ويودّون بالتالي تعميمه بحيث يشمل جميع البلدان في العالم. لذلك يعارضون الواقعيّة الديبلوماسيّة التي طبعت سياسة وزير الخارجيّة الأسبق هنري كيسنجر مثلاً، ويودّون أن يضعوا حدّاً للسياسة القائمة على التسويات، تلك السياسة الذي استفاد منها الاتّحاد السوفياتيّ السابق والأنظمة الجائرة في العالم. أمّا في مجال السياسة الداخليّة، فيحذون حذو المعلّم ليو شتراوس وينبرون ينتقدون ما عُرِفَ بـ«المذهب النسبيّ» في الثقافة والأخلاق، وهو المذهب الذي ساد في أميركا في الربع الأخير من القرن الماضي. في هذا السياق، يهاجم ألان بلوم بعض الأوساط الجامعيّة التي تعتبر أنّ أيّ أمر يساوي من حيث القيمة والقَدْر أيّ أمر آخر ويقول: «كلّ شيء غدا (بالنسبة إلى هؤلاء الجامعيّين) ثقافة: ثقافة المخدّرات وثقافة الروك أند رول (ويقصد ههنا بالطبع الرقصة التي راجت في الغرب في الستينيّات من القرن الماضي) وثقافة عصابات الأشرار في الأزقّة وهلمّ جراً من دون أدنى تمييز، إلى أن غدا فشل الثقافة ثقافة». وهذا يعني بالنسبة إلى هؤلاء أنّ حضارة الغرب ليست متفوّقة على ما عداها، فتستوي عندهم حينذاك الأنظمة الديموقراطيّة في الغرب وأنظمة الطغيان السائدة في العالم. أمّا عن علاقة المحافظين الجدد بـ ليو شتراوس، فمن المؤكّد أنّ هذا الفيلسوف قد وفّر لهؤلاء الأساس النظريّ. ولِدَ شتراوس وعاش في كنف عائلة يهوديّة في ألمانيا عام 1899، وخدم في الجيش الألمانيّ إبّان الحرب العالميّة الأولى. دَرَسَ في جامعتَي ماربورغ (على يد الفيلسوف هيرمان كوهين) وهامبورغ، ثمّ أمضى عاماً أكاديميّاً واحداً، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في جامعة فرايبورغ إم برايزغاو، التي انعقد لواؤها في تلك الفترة لمؤسّس المنهج الفينومينولوجيّ إدمونت هوسّرل ومساعده الشابّ مارتن هايدغر. قادته أبحاثه في الفكر اليهوديّ إلى برلين. عام 1932، غادر ألمانيا عشيّة وصول هتلر إلى السلطة وعرّج على فرنسا ثمّ إنكلترا، قبل أن يستقرّ عام 1938 في نيويورك ويعمل مدرّساً في «نيو سكول أوف سوشال ريسورش» (أي المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعيّة)، ثمّ في جامعتَي كلارمونت وأنّابوليس، قبل أن يؤسّس في شيكاغو «ذي كومّيتي أون سوشال ثوت» (أي هيئة الفكر الاجتماعيّ) التي ستجمع أتباعه ومريديه في بوتقة تنظيميّة واحدة. توفّي شتراوس في ولاية ماريلاند عام 1973. لكن لا بدّ، قبل أن أختم هذه السيرة السريعة، من أن أذكر أنّه كان شغوفاً بالفارابي (راجع كتابه بالفرنسيّة «بعض الملاحظات على العلم السياسيّ عند كلٍّ من ابن ميمون والفارابي»، 1936) إلى جانب شغفه بأفلاطون وأرسطو وسبينوزا وخلافهم، وكان يملك ناصية ألسنة عديدة ومنها لسان العرب.
اعتبر شتراوس أنّ حظوظ النظام الديموقراطيّ الليبراليّ في التغلّب على أنظمة الطغيان، التوسّعيّة بطبعها، تبقى ضعيفةً إذا لم يحزم هذا النظام أمره ويعتمد القوّة.
وهو رأى أنّ الديموقراطــــــيّة الأميركيّة هي الأقلّ سوءاً بين الأنظــــــمة السياسيّة، أو هي أفضل المــــــــــــمكن بالنسبة إلى خير الإنسان ونمـــــــوّه، على الرغم من إقراره بانعدام الفضيلة وإحلال المصالح في أساس النظام السياسيّ الأميركيّ.
وخلاصة القول أنّ المحافظين الجدد في أميركا أعلنوا أنّهم نذروا أنفسهم لإحلال الديموقراطيّة والحرّيّات في العالم، أمس في ألمانيا واليابان واليوم في الشرق الأوسط. ولا شكّ في أنّهم اعتبروا، انطلاقاً من الحرب على العراق، أنّ تقويض الأنظمة السياسيّة «الشرّيرة» ممكن، بل هو مطلوب. فما العمل في هذه الأحوال لردع الطغاة الجدد وإرغامهم على التزام القوانين والمواثيق الدَوليّة التزاماً عمليّاً؟
* مفكر لبناني