بولس خلف
ظاهرة البكاء والنحيب والدموع وثكنة مرجعيون ليست وليدة الساعة. انها الترجمة اللبنانية دون تبرج لثقافة الخنوع والوهن والاستسلام والعمالة التي مارستها وروّجت لها بعض الأنظمة العربية منذ عقود. انها نفس الثقافة التي وجدت في التجربة الناصرية امتداداً للمنظومة الاشتراكية ومجرد أداة للاتحاد السوفياتي السابق ولم تر فيها حركة استقلالية وطنية ضد النفوذ الاستعماري أو تعبيراً عن إرادة حقيقية في بناء مشروع عربي تحرري. من الخطأ إذاً رسم علامات التعجب والاستفهام أمام النظريات التي أطلقت في اليومين الماضيين حول ان الدموع التي ذرفت أيام الحرب كان لها مفعول أقوى من آلاف الصواريخ وأنه لا يمكن إجبار اسرائيل على الانسحاب بالقوة من الأراضي التي تحتلها. ما قيل وما سيقال عن عدم جدوى الممانعة والكلفة الباهظة للمقاومة وغياب «حس المسؤولية» عند هؤلاء «المغامرين» الذين «يتوهمون» انه يمكن استعمال القوة في وجه اسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية، ليس إلا امتداداً لفكر موجود منذ أن وجد الاستعمار الذي أوجد الدولة العبرية. الجديد في الموضوع هو أن النسخة اللبنانية لثقافة الاستسلام هذه، التي يسمونها ثقافة الواقعية، قررت نزع قفازاتها ورمي أقنعتها جانباً والتعبير بفظاظة عن مكنوناتها التي اضطرت الى كبتها لفترة طويلة. وبقدر ما يجاهر مروّجو هذه الثقافة بقناعاتهم بقدر ما يشعرون بنشوة التحرر من القيود التي وضعوها في السنوات الماضية لحركتهم وخطابهم السياسيين. وأخيراً يشعر هؤلاء أنهم باتوا منسجمين مع ذاتهم ومخلصين لأفكارهم.
لو كانت هذه الظاهرة مجرد مشكلة نفسية عند بعض السياسيين الذين ارتأوا أن يتصالحوا مع ذاتهم، لأمكننا معالجة الموضوع من زاوية سيكولوجية. كان يمكن مساعدتهم على الغوص أكثر في أعماقهم كي يكتشفوا هويتهم الحقيقية، وفي نهاية المطاف إرشادهم الى أخصائيين بارعين!
لكن المشكلة أكبر من مجرد عوارض نفسية. إنها خيار سياسي سيكون له تداعيات خطيرة على الهامش الديموقراطي الموجود في لبنان والفريد من نوعه في كل المنطقة.
إن المعادلة بسيطة جداً مهما حاولنا تعقيدها. يوحي منظرو ثقافة الدموع والشاي من خلال أفعالهم وأقوالهم أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي انتهى. ويتصرفون كأن فكرة المقاومة وإرادة الممانعة هي في غير زمانها وتنتمي الى عصر ولّى. وكما في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حين رأى مروّجو هذه الثقافة أن الخطر الداهم هو سوفياتي، يقولون إنه إيراني ـ فارسي ـ شعوبي فلا منذ خمسة عقود ولا اليوم الخطر الاسرائيلي.
هذه النخب والأنظمة هي طبعاً منسلخة تماماً عن شعوبها. الكل يعلم أن الشارع العربي كان وما يزال يكّن لإسرائيل عداءً قوياً وأنه يرفض فكرة التطبيع مع الدولة العبرية كي تستطيع هذه الأنظمة أن تفي بوعودها وتلتزم بتعهداتها وتحترم تفاهماتها السرية والعلنية مع الولايات المتحدة واسرائيل، عليها أن تضيّق الى أدنى الحدود مساحة الحرية في مجتمعاتها. كلما اعتدلت هذه الأنظمة تجاه اسرائيل، كلما تشددت مع شعوبها. هذا التلازم العضوي واضح وغير قابل للجدل. فما من شك يراودنا حول حقيقة مشاعر الشعبين المصري والأردني تجاه اسرائيل. ورغم ذلك ما تزال معاهدات السلام بين هذين البلدين والدولة العبرية قائمة.
ان التطبيق اللبناني لهذه المعادلة مخيف. فإذا أراد لبنان أن «يعتدل» تجاه اسرائيل، على حكومته أن تتشدد مع شعبها. ان القمع الدموي لمخالفات البناء على طريق المطار هو نموذج «معتدل» عما ينتظرنا. الآتي أعظم، والضحية الأولى لثقافة نهاية الصراع العربي ـ الاسرائيلي لن تكون المقاومة، فهي قادرة على الدفاع عن نفسها، بل هي الديموقراطية. صحيح ان فحص الدم في الوطنية والعروبة ليس ضرورياً كما يقول أصحاب الدموع والشاي. هم في الحقيقة بحاجة الى check - up كامل!.