فؤاد خليل*
في أن العروبة حيّةٌ بالمجتمعي
مع طفرة فكر النهايات في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، انساق رهط من مثقفين لبنانيين وعرب إلى نعي ما صنفّوه في خانة الأفكار الكبرى. وكان مما نعاه هؤلاء فكرة العروبة، وفي سرّهم افتتان ملحوظ اختلط فيه الخوف مع الدهشة من الجديد المعرفي.وبين أيديهم ذرائع شتى كان أظهرها أن العروبة مذهبٌ أيديولوجي لم يشهد له التاريخ، ومسيرة تلازمت مع القمع والاستبداد، ودعوة أنتجت نقائضها الواقعية الصارخة...
وبعدما وقّع ذاك الرهط على أوراق نعي العروبة، وروّج تشييعها في الصوت والصورة، راح يقصّ من وحي تصنيف بودريار لاشتغال الفكر المعاصر سردياته الصغرى على الجمهور العربي، وهو يظن أنه بإشاعة هذه السرديات أو غيرها يطهّر نفسه من رجس الإيديولوجيا من جهة، ويسهم في تقويض شروط التخلف بين ظهراني الأمة من جهة أخرى..
لا ريب في أن العروبة الرسمية أو عروبة الأنظمة وجدت انتظامها التاريخي في مشروع سياسي، حوّلها إلى أيديولوجيا سلطوية تعبّر عن مصالح أهل الحكم في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ما جعلها بقدْر أو بآخر تحجب القمع والاستبداد تحت شعار النضال القومي، وتخفي الفئوية نظير الملة أو النِحلة، باسم الوحدة الوطنية، وتسوّغ إلغاء السياسة في المجتمع تحت لافتة الاستقرار والنظام. فكان من الطبيعي أن تعجز صيغة العروبة هذه، عن تحقيق المهمات المتعلقة بالوطني والقومي، كما المرتبطة بالاقتصادي والمجتمعي.
ومع عجزها المتمادي طوال عقود متتالية، كانت العروبة الرسمية تحكم على نفسها بالموت البطيء وتخطّ بقلمها الرسمي أوراق نعيها، قبل أن يكتب رهط من أهل الفكر والثقافة أوراق نعيه الخاصة لها...
إذاً، ليس ثمة شك في أن الصيغة أعلاه من العروبة قد ماتت في زمنها المحتوم.. وفي أحسن الأحوال قد صارت أقرب إلى ما يشبه أرض الموات بعدما تخلّى عنها حائزها ونسي اسمها وموقعها...
لكن موت أو موات هذه الصيغة، لا يعني البتة موت العروبة كرابطة وطنية وقومية جامعة، بل على النقيض تماماً. فالأخيرة كانت وما زالت تشكل الشرط الضروري لوحدة المجتمعي في كل كيان عربي، لأنها تقوم على المشترك بين مكوّنات هذا المجتمعي وتتحوّل به إلى قوام الرابط الوطني الذي يؤطر عناصر تنوّعه الداخلي، كما إلى قوام الرابط القومي الذي يأتلف عناصر التنوع في الوطني، ولأن كل رابطة اثنية أو طائفية أو جهوية تغدو البديل منها أو تطغى عليها، تؤدي إلى تفكيك المجتمعي وشطره إلى أجزاء متجاورة تتنابذ وتتصارع في ما بينها ضد وجودها ووجود المجتمعي على السواء...
هذه الرؤية وجدت شواهدها الملموسة في وقائع التطورات التي عصفت في بلادنا منذ عقد ونصف عقد من الزمن، وبخاصة بعد أحداث 11 أيلول 2001 وما تركته من تداعيات على الصعيد المجتمعي بالدرجة الأولى.. فالاحتلال الأميركي للعراق حمل أهدافاً استراتيجية معروفة. لكن الأخطر من بينها كان تعامله الثقافوي مع المجتمع العراقي. إذ نظر إليه بوصفه جمعاً من البشر يتكون من أجزاء متجاورة لا تنتظم في مشترك بنيوي، أو بمعنى آخر، بوصفه جمعاً يضم جماعات متفرقة لم تنتج الروابط والعلاقات وديناميات التفاعل في ما بينها كلاً أو مجتمعاً له رابطة جامعة أو هوية مشتركة. وحالما أخذ هذا التعامل يشق طريقه إلى أرض الواقع، وجد التمييز بين جزء وآخر أشكاله «المثالية» في التطبيق. وتقدّم هذا على ذاك، وتخلّف ذاك عن ذلك، فتنامت هوية الأجزاء، وازدهرت انتماءاتها الأولية، وتورّمت ذواتها الجمعية. ثم ما لبثت أن اندفعت إلى مسار مفتوح من التنابذ المتبادل الذي وضع المجتمع العراقي برمته في دائرة السؤال المصيري...
إن تنامي هوية الجماعات في العراق في صورة تنابذية، جاء يعبّر عن انزلاقها إلى صيرورة قصوى من الإقصاء المنهجي للمشترك بينها. ومع إقصاء المشترك يغيب الأساس المادي لقيام الرابطة الوطنية الجامعة، أي لقيام العروبة. حينذاك تتحوّل كل جماعة إلى واحد مستغلق على ذاته. وما إن يستغلف الواحد (الجماعة) على ذاته، حتى يجد نفسه مدفوعاً إما إلى فتنة وإما إلى حرب أهلية. فالفتنة هي كسر الواحد بالواحد أو حرب الخاص على الخاص. والحرب الأهلية هي كسر المشترك بالآحاد (الجماعات) أو حرب الآحاد على مشتركها...
هذا هو في اعتقادنا الأخطر من بين أهداف الاحتلال الأميركي. أن تضيع العروبة بين الفتنة والحرب كي يصبح العراق من دون هوية وطنية جامعة، وكي يشكل نموذجاً تقتدي به بلدان المنطقة بحيث تفقد هويتها القومية لمصلحة هويات فئوية ضيقة تخدم مشاريع الهيمنة الأميركية المتجددة على بلادنا. وما يجري في بلاد الرافدين، جرى قبله بأشكال أخرى في لبنان إبان حربه الأهلية 1975- 1989، ثم تنوعت تلك الأشكال في زمن السلم وبقي الكيان اللبناني يعيش دينامية التنازع بين مكوناته الفئوية والطائفية. وقد جاءت مفاعيل حرب تموز الأخيرة تصعّد التنازع وتقدّم الدليل الساطع على أن جذوره تتركّز على ثوابت الكيان وخياراته الأساسية ومنها بالطبع هويته وموقعه الإقليمي. وهو ما كان يضع وحدته الوطنية وما زال يضعها في دائرة القلق المستديم...
العراق اليوم ولبنان في الأمس واليوم يمثّلان عينة دالة. وهي تفصح بالملموس عن أن أي مجتمع عربي آخر سواء دخل أو أُدخل في مسار من التنابذ بين جماعاته أو مكوناته، تتعرض وحدته لديناميات التفكك الداخلي، ويتحول إلى مسرح للتفتيت في تركيبه الإجمالي كما في مكوناته المفردة. فيتهدد في وجوده ككل، ويتهدد وجود الدولة ككيان سياسي ودستوري يقوم على مجال موحد، أي على مجال وطني تتحدد اللحمة الوطنية بين مكوناته المجتمعية في هوية جامعة، لا تكون إلا بالعروبة...
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* أستاذ جامعي