عصام نعمان *
كان لبنان دائماً وما زال في حال أزمة. مردُّ الأزمة الاجتماعُ السياسي اللبناني المكوّن من طوائف وجماعات تتنافس وتتصارع وتبحث باستمرار عن حال توازن. عندما تتوصل مكوّنات لبنان، خلال الأزمة، إلى حال توازن، تُسمي ذلك وفاقاً. عندما تعجز عن بلوغ هذه الحال، فهي في مأزق. وعندما يطول أمد المأزق والاحتقان فإنه يتطور إلى انفجار. حال التوازن في تاريخ لبنان السياسي قصيرة الأمد. مردّ ذلك أسبابٌ عدة أبرزها اثنان: الأول، حدّة التنافس والصراع بين رموز الطوائف والجماعات اللبنانيـة على السلطة والمصالح والمغانم. الثاني، دور الخارج، الإقليمي أو الدولي، في الداخل المحلي أو الوطني. ذلك ان ما من تطور وازن أو حدث حاسم فـي تاريخ لبنان المعاصر إلاّ وكان نتيجة انقلاب في موازين القوى الإقليمية والدولية، أو نتيجة تدخل قوة خارجية للتفريق أو التوفيق بين طوائفه وجماعاته المتنافسة والمتصارعة. لبنان، بعد الحرب الإسرائيلية العدوانية عليه، يعيش ذروة تفاعل حارّ بين هذين السببين أو العاملين، أدى الى إنتاج المأزق الراهن. نجحت جماعة المقاومة، بما تنطوي عليه من قوى إسلامية شيعية مقاتلة وأخرى سياسية مؤيدة لها من مختلف الطوائف والتنظيمات الوطنية والاجتماعية، في الخروج من الحرب منتصرةً لمجرد ان العدو الإسرائيلي أخفق في هزمها، بينما وجدت جماعة أخرى ذات غالبية مسيحية في قاعدتها إنما ذات منطلقات ومرتجيات وامتدادات وطنية، نفسَها عُرضةً، بشخص قائدها العماد ميشال عون، لهجمة ضارية من قوى سياسية معادية داخل طوائف وجماعات مدعومة من الخارج، بل من الولايات المتحدة تحديداً. غاية الهجمة إضعاف عون وترهيله وإخراجه تالياً من حلبة المنافسة على رئاسة الجمهورية كونه المرشح الأكثر شعبية والأكثر قبولاً في أوساط جماعة المقاومة وأنصارها وحلفائها. تشتد عداوة الطبقة السياسية المتحكمة لعون لسبب آخر، لعله الأكثر أهميةً. فهو، شأن الرئيسين فؤاد شهاب وإميل لحود، خريج المؤسسة العسكرية وبالتالي خارج الطبقة السياسية التقليدية التي تحكّم جناحاها الموالي والمعارض مداورةً بالسلطة والبلد منذ الاستقلال عام 1943. استقلاله النسبي عن الطبقة السياسية المتحكمة جعله أكثر قابلية وتقبلاً ومبادرة للإصلاح من منافسيه المدنيين المشاركين في غالبيتهم في فساد الطبقة السياسية التقليدية أو المستفيدين منه أو الساكتين عنه. في نهوضه إلى الدفاع عن نفسه وجماعته، يبدو العماد عون أمام خيارين حاسمين في نتائجهما: الأول، أن ينقذ نفسه ومستقبله في طائفته. الثاني، أن ينقذ نفسه ومستقبله في وطنه. الخيار الأول، على صعوبته، أسهل منالاً من الخيار الثاني. أن يكون عون المرشح لرئاسة الجمهورية قوياً في طائفته يزيد غالباً من حظوظه للفوز بها. حتى لو لم يسعفه الحظ، فإن قوته في طائفته تساعده على الفوز بأدوار وحصص أوفر في سائر مستويات السلطة. غير ان الخيار الثاني وإن بدا أصعب منالاً إلاّ انه أكثر مردوداً في حساب التاريخ. ذلك أن اختيار الخلاص الشخصي مشروطاً بخلاص الوطن قد يقترن بجائزة مجزية هي الفوز برئاسة الجمهورية، ويقترن أيضاً عند أصحاب النفوس الكبيرة بما هو أعظم منها حتى مع الإخفاق في نيلها. إنه حجز مكانة عالية لشخصه بين الكبار في تاريخ وطنه. إذا انتقى عون الخيار الأول والأسهل، فسيحرص على ان يكون خطابه في 15 الشهر الجاري (ذكرى اقتلاعه من السلطة قبل 16 سنة بقرار أميركي وقوات سورية وابتهاج عارم في صفوف الطبقة السياسية المتحكمة) خطاباً مسيحياً في شكله ومضمونه. سيقول لجمهوره إنه كان وما زال الرائد الاستقلالي الأقدم والأصدق والأفعل في مجال رفع الوصاية السورية عن لبنان يوم كان الآخرون ــ أصدقاؤها آنذاك وأعداؤها اليوم ــ شركاءها ووكلاءها وأجراءها بامتياز. سيتساءل: أين حقوق المسيحيين في المراكز والوظائف؟ لماذا جرّدوا من السلطات والصلاحيات؟ لماذا جرى صرف مئات ملايين الدولارات ولم يرجع من المسيحيين المهجرين الى بيوتهم سوى 17 في المئة منهم فقط؟ لماذا شرّعت قوانين الانتخابات مذ نفذ بعضٌ من بنود اتفاق الطائف على نحوٍ يُمكّن الناخبين المسلمين من انتخاب عدد كبير من المرشحين وبالتالي النواب المسيحيين؟ وهل يمكن استعادة الدور الكبير الذي كان للمسيحيين في الماضي، كما المكانة والكرامة، من دون استرداد الصلاحيات الواسعة التي كان دستور ما قبل اتفاق الطائف قد منحهم إياها؟
بإمكان العماد عون ان يقول كلاماً من هذا الطراز فيسحب البساط من تحت أرجل راكبي موجة التطرف المسيحي، ومحترفي السياسة من قدامى شركاء الوصاية السورية التي يعيّرونه اليوم بأنه بات حليف حلفائها القدامى. غير ان هذا الكلام لا يساعد عون على الوصول إلى سدة الرئاسة وإن كان يضمن له ثقلاً وحضوراً فاعلين في المجتمع المسيحي ودوراً مؤثراً في الحاضر والمستقبل المنظور. إذا انتقى عون الخيار الثاني والأصعب فإن خياره سيكون في واقع الأمر قـراراً تاريخياً بتجديد القضية الوطنية وتزخيمها بمضامين إصلاحية، سياسية واجتماعية، وبالتزام مباشرة تأسيس الدولة المدنية الديموقراطية القادرة والعادلة. في هذا الإطار، من المفترض أن يخاطب عون جمهوره كجزء لا يتجزأ من الشعب اللبناني، ويدعو المسيحيين بينهم إلى التزام الإرشاد الرسولي الداعي إلى اندماج العرب المسيحيين في مجتمعاتهم ومشاطرتهم مواطنيها سرّاءهم وضرّاءهم، والى اضطلاعهم مع سائر القوى الحية فيها برسالة النهضة والتقدم. وإذْ يجدد عون التزامه اتفاق الطائف منطلَقاً لإرساء دولة القانون والمؤسسات يذكّر الجمهور، كما القوى الحية وذوي الإرادات الطيبة، بأن معظم بنود الاتفاق المذكور قد أضحى جزءاً من الدستور، وانه يقتضي بالتالي الالتزام قولاً وفعلاً تنفيذ أحكام الدستور بلا إبطاء، ولا سيما لجهة جوهره الإصلاحي المتمثل في مباشرة مسار تجاوز الطائفية السياسية تدريجاً بتطبيق المادتين 22 و95 من الدستور في آن معاً. فالمادة 22 تقضي بالآتي: «مع (وليس بعد) انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية». والمادة 95 تقضي بالآتي: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتأليف هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية... الخ».
ثم يفترض أن يتطرق عون إلى آلية تنفيذ برنامج الإصلاح الشامل بالدعوة إلى التوافق على تأليف حكومة اتحاد وطني تكون عضويتها مناصفةً بين القوى الحية بتلاوينها جميعاً من جهة والقوى التقليدية بمواليها ومعارضيها من جهة أخرى، مهمتها الرئيسة الحوار الوطني الجاد من أجل التوصل إلى صوغ قانون انتخاب ديموقراطي عادل على أساس النسبية، وبالتالي إجراء انتخابات نيابية وفق أحكامه ليكون مجلس النواب العتيد بمثابة جمعية تأسيسية تشرّع القوانين والأنظمة لوضع الإصلاحات المنصوص عليها في الدستور، ولا سيما المادتين 22 و95، موضع التنفيذ.
الأرجح ألاّ توافق الطبقة السياسية التقليدية، المحتشدة بمعظمها حالياً في شبكة 14 آذار الحاكمة، على قيام حكومة اتحاد وطني بالتركيبة والمهمات المقترحة آنفاً. فلا بأس، والحال هذه، أن يدعو عون إلى تنادي القوى الحية ممن قياداتها ليست أصلا وفصلاً من أصول الطبقة السياسية التقليدية وفروعها، كحزب الله و«التيار الوطني الحر» و«القوة الثالثة» والشيوعيين والقوميين الاجتماعيين والناصريين وسائر القوى الديموقراطية، الى تأليف لجنة تحضيرية مهمتها وضع الترتيبات اللازمة لتنظيم مؤتمر وطني عام يتدارس فيه مندوبو القوى الحية بتلاوينها جميعاً أسس برنامج الإصلاح الوطني الديموقراطي الشامل وآليات تنفيذه، بما في ذلك وسائل ممارسة النضال المطلبي الاجتماعي والعصيان المدني، إذا اقتضى الأمر.
في هذه الأثناء يقتضي ان تساند القوى الحية العماد ميشال عون، بما هو شخصية قيادية وطنية إصلاحية، بإعلانها الموافقة على بعض الإصلاحات الدستورية التي من شأنها دعمه في مجتمعه وبين أنصاره على النحو الآتي:
• توسيع سلطات رئيس الجمهورية بما هو رئيس الدولة وبالتالي رئيس سلطاتها جميعاً، بتمكينه منفرداً، شأن مجلس الوزراء، من حلّ مجلس النواب في الحالتين المنصوص عليهما في الفقرة 4 من المادة 65 من الدستور، وإضافة حالة ثالثة إليهما هي امتناع مجلس النواب لأي سبب كان طوال مدة لا تقل عن شهر من تاريخ قبول استقالة الحكومة، عن منح حكومة جديدة الثقة لتباشر مسؤوليات الحكم.
• ترسيخ مبدأ المناصفة باعتماد مبدأ المساواة في تمثيل الطوائف الست الكبرى في مجلس الشيوخ من جهة وكذلك في تمثيل الأقليات المسيحية والأقليات الإسلامية إنما بنسبة أدنى من جهة أخرى، وبحصر صلاحيات مجلس الشيوخ بالمواضيع الآتية:
تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، الاتفاقات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة المدى، إعادة النظر في التقسيم الإداري، قانون انتخاب مجلس الشيوخ، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية.
• الإسراع في صوغ قانون اللامركزية الإدارية وتطبيقه بلا إبطاء. غني عن البيان ان القوى الحية تدعو ميشال عون إلى اعتماد الخيار الثاني وقيادة الحركة الديموقراطية الناهضة إلى تحقيقه. لعله ولعلها باعتماد هذا الخيار يتمكنان من الحؤول دون انزلاق البلد الى الاضطراب والفوضى بل ربما من النجاح، لأول مرة في تاريخ لبنان، في إنتاج دولة سيدة مستقلة، بمنأى عن أية وصاية إقليمية أو دولية.
* وزير ونائب سابق - محام وكاتب