خورشيد دلي*
على الرغم من موافقة الاتحاد الأوروبي على بدء مفاوضات العضوية مع تركيا منذ أشهر إلا ان من يتابع ويراقب مسار العلاقة بين الجانبين لا بد من ان يطرح العديد من التساؤلات التي ينصب معظمها في خانة البعد الحضاري، فإذا كان مسار انضمام تركيا إلى العضوية الأوروبية مساراً للممارسة الديموقراطية وضمانها عبر المزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية وصولاً إلى معايير كوبنهاغن الأوروبية، فإنه بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي مسار واختبار حضاري لاحترام الهوية الإسلامية بعيداً من سياسة التذويب أو بعض المفاهيم اليمينية المتصاعدة في الغرب التي تضع الإسلام والمسلمين في موقع الإرهاب والتخلف، ومن هذه الزاوية بالذات تنظر الدول العربية والإسلامية بعين الأهمية إلى مسألة انضمام تركيا كأول بلد إسلامي إلى عضوية الاتحاد الأوروبي الذي له هوية حضارية مختلفة عن تركيا التي كانت في أذهان الأوروبيين حتى وقت قريب وربما لدى البعض حتى هذه اللحظة وريثة الإمبراطورية العثمانية التي دكّت أسوار فيينا.
مع التأكيد أن مسألة الهوية مسألة إشكالية في مضمونها واتجاهاتها، فإن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا كثيرة وهي من نوع: هل نجحت النخب التركية في تحقيق معادلة التوفيق بين الهوية الإسلامية للبلاد والعلمانية الأوروبية؟ وهل البنية السياسية التركية بمحدداتها الراهنة قادرة على تجاوز الجذور الفكرية للدولة التركية الحديثة التي قامت على الطورانية والكمالية (نسبة إلى كمال أتاتورك في وقت لا يزال فيه الأخير في مرتبة المقدسات والمحرمات من قبل الأوساط التركية المؤثرة) لمصلحة تطبيق المعايير الأوروبية حتى النهاية؟ في المقابل فإن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه على الاتحاد الأوروبي، هل الاتحاد بقبوله دولة إسلامية في عضويته تنازل عن بنود ميثاقه التي تقر بانسجام دول الاتحاد حضارياً وثقافياً واجتماعياً؟ وعندما وافق على بدء مفاوضات العضوية، إلى أية درجة اختلطت الأولويات السياسية النابعة من المصلحة الآنية في السياسات الدولية مع البعد الحضاري لحقيقة الفكر الليبرالي في أوروبا؟ إنها أسئلة في غاية الحساسية والدقة للجانبين، يمكن القول إنه على الإجابة عن هذه الأسئلة تتوقف مسألة قبول العضوية الكاملة لتركيا في الاتحاد الأوروبي أو عدمه.
في الواقع، إذا كانت النخبة التركية ترى ان مسألة تحقيق المعايير أو القيم الأوروبية هي مسألة وقت لا أكثر، فإن بديهية كون تركيا بلداً إسلامياً، يشكل المسلمون قرابة 97 في المئة من السكان البالغ عددهم قرابة 75 مليون نسمة، هذه البديهية تطرح علينا السؤال التالي: كيف يمكن حل إشكالية وجود مجتمعين مختلفين في ظل اتحاد له هويته الحضارية ومؤسساته العليا وميثاقه؟ إذا تذكرنا أن البرلمان الأوروبي هو أعلى سلطة تشريعية في دول الاتحاد وينتخب على أساس مباشر ومن منطلق التحالفات الحزبية عبر هذه الدول، فكيف يمكن تصور انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد ثم اشتراك حكومة أو حتى حزب له توجّه إسلامي (العدالة والتنمية مثلاً) في الانتخابات البرلمانية الأوروبية؟
في الواقع، إذا كان من الصعب تصور وجود حزبين مختلفين حضارياً في برلمان واحد فإنه لا بد من التساؤل عن آلية حل هذا الإشكال الحضاري السياسي، فمثلما هو مستحيل بالنسبة إلى الأتراك إثبات انتماء بلدهم إلى أوروبا جغرافياً وحضارياً، كذلك فإن المسألة صعبة وإشكالية بالنسبة إلى أوروبا نفسها في قبول العضوية الكاملة لدولة لا تنتمي إلى اتحادهم حضارياً وجغرافياً، وحل هذا الإشكال يشكل تحدياً للفكر الأوروبي الذي يصنف نفسه بالليبرالي والديموقراطي، والتحدي هنا هل في إمكان هذا الفكر ان يقر بالهوية الإسلامية حضارياً وثقافياً في اتحاده، وخصوصاً ان قبول عضوية تركيا يعني ان حدود الاتحاد ستصبح مع دول مثل إيران والعراق وسوريا وآسيا الوسطى؟
خارج معضلة الانتماء الحضاري والجغرافي، فإن مسألة الإسلام السياسي في بلاد تاريخية مهمة مثل تركيا ما زالت بنظر العديد من الأوروبيين هي وريثة الدولة العثمانية التي أذاقت شعوبهم المرارة في حروب فتح (القسطنطينية ــ إستنبول)، وكذلك في مرحلة قفز فيه الإسلام إلى مرتبة العدو بالنسبة إلى العديد من المؤسسات الغربية... مسألة شائكة ومعقّدة وخاصة من حيث التعامل معها.
من دون شك، التحديات المذكورة تجعل من مسألة عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي مسألة محفوفة بالمخاطر عند أي مشكلة أو أزمة إجرائية تتجاوز مسألة تطبيق معايير كوبناغهن إلى القيم الحضارية، ولعل هذا ما يفسر تأكيد العديد من الشخصيات والدول والمؤسسات الأوروبية أن العضوية الأوروبية غير مضمونة لتركيا إلى درجة أننا في كل يوم نسمع شروطاً أو عقبة جديدة، تارة بالقول ان مفاوضات العضوية مرتبطة بحل المشكلة القبرصية، وأخرى باعتراف تركيا بالمجازر التي ارتكبت ضد الأرمن مطلع القرن الماضي (تصريحات الرئيس الفرنسي جاك شيراك الأخيرة خلال زيارته إلى جمهورية أرمينيا أخيراً)، وثالثة بإجراء استفتاء في الدول الأوروبية في شأن انضمام تركيا، ورابعة تأكيد بعض كبار الشخصيات أن الاختلاف الديني كفيل بعدم تحقيق العضوية الكاملة... ولعل كل هذا وغيره يقف وراء الخطاب الأوروبي المتردد الذي لا يقول (نعم كاملة) كما أنه لا يقول (لا مطلقة) في شأن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يؤكد أن مسيرة انضمام تركيا إلى العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي ستكون صعبة وطويلة وربما في حجم التباعد الحضاري بين الجانبين.
*كاتب سوري