إلهام منصور *
كنت أمام شاشة التلفاز حين عُقدت جلسة الاعتصام الاولى للمجلس النيابي ضد الحصار الاسرائيلي على لبنان التي نُقلت عبر كل الفضائيات المحلية. مشهد مهيب لقاعة غاصة بـ«ممثلي» الشعب اللبناني العظيم، مشهد تشكّل أمام غابة من الذكور تزيّنها ست زهرات مبعثرة من دون انتظام محدد. جمعت الزهرات في باقة أنيقة وجعلتها تتوسّط الغابة. لكن ما إن اكتمل المشهد من جديد حتى خطر ببالي تلوين الزهرات وفقاً لمعايير الديموقراطية اللبنانية التي أسمع من الجميع انها توافقية، وهنا وقعت المشكلة. هل يعقل لزهرة ان تكون من دون لون؟
تسمّر نظري على هذه الباقة السريالية لكنها الواقعية جداً وحاولت دراستها وتحليلها علّني أتمكن من ايجاد اللون المناسب لكل زهرة فيها. كلنا يعلم ان الدراسة والتحليل لا يستقيمان إلا باستعمال أدوات معينة، ولا أدخل الآن في منهج تحديدها، وأنا لا أملك من تلك الأدوات إلا القلم والريشة، أي الكلمة واللون فحتّم عليّ ان ألوّن الزهرات وفقاً لما تمليه الكلمة. ولا أخفي على القارئ ان محاولتي هذه كانت البحث عن معادلة تتوافق مع روحية الديموقراطية التي تقضي بتقسيم أعضاء البرلمان اللبناني عددياً وبالتساوي بين المسلمين والمسيحيين بحسب اتفاق الطائف من دون الدخول في تفاصيل التقسيمات التفصيلية الاخرى التي ستثقل على البحث وتدفعني الى التكاسل وعدم المتابعة. حاولت اذاً البحث عن المناصفة، في موضوع ما، بين زهرات البرلمان لكي أضع على كل ثلاث منها اللون المناسب فيستقيم الوضع وتنتعش الديموقراطية وتتحقق المساواة التوافقية المركّبة. وسأروي ما خطر ببالي من دون ترتيب مقصود أو ممنهج، وما خطر ببالي هو:
1 ــ بدأت الجلسة فصولها تتوالى أمامي على شاشة التلفاز والتي كانت مخصصة لأن يدلي كلٌّ بدلوه في الوضع الراهن. ماذا رأيت؟ هنا لا أريد الدخول في تأثير الانتماء الديني على السياسة أو العكس عند ممثلي الشعب اللبناني وأكتفي بالقول انني لم أوفق في إيجاد التوازن العددي الذي أبحث عنه اذ وجدت إجماعاً ليس له مثيل بين الزهرات ما أحبط لديّ محاولة إذ خرجن كلهن بلون واحد ونحن في لبنان ضد اللون الواحد وأحادية الرأي وضد العولمة لأنها آتية من قطب واحد في هذا العالم.
2 ــ لكن ما سبق ولفت نظري الى الانتماء الديني لزهرات المجلس، وهنا أيضاً سقطت المعادلة العادلة وتعثّرت الديموقراطية إذ ان تلك الزهرات توزعن على الديانتين الكبيرتين في لبنان، لكن توزعهن أتى بأرجحية كبيرة لمصلحة المسيحيات مع احتفاظ المسلمات بالثلث المعطل، لكن التوزيع هذا أسقط ديموقراطية اللونين التي أبحث عنها وسقطت معه المحاولة في هذا الاتجاه.
3 ــ الفشل السابق دفعني الى البحث في أشكال الزهرات ونوعياتها علّني أتمكن من تحقيق القسمة العادلة. لكن حين استعرضتهن أمامي وجدتهن كلهن أنيقات جميلات على الرغم من بعض التمايزات، لكنها تمايزات تدخل في باب «النيصات» nuances لا في الأساسيات ما يجعل الباقة من لون واحد متدرّج وما يسقط المحاولة من جديد. مع العلم انني سمعت بعض التعليقات الخبيثة التي صنّفت زهرات البرلمان بين أوركيده وزنبق وقرنفل و... لكنها تعليقات، كما قلت، خبيثة لا أتوقف عندها.
4 ــ انتقلت من الشكل الخارجي الى الداخل، الى المواقف. هنا وجدت ان الرؤية غير واضحة والسماء ملبّدة بالغيوم بحيث اننا أو انني عجزت عن معرفة موقف كل زهرة منهن مثلاً من القرار 1559 أو المقاومة أو.. لعلهن، هنا في الجو العام الغامض حيث المضمر غير المعلن وحيث المصرح به غير المسكوت عنه وحيث المنطوق به يتحمل تأويلات عديدة. هنا أيضاً فقدت الريشة التوازن ولم تستطع تلوين أي زهرة أو انها كادت تسقط ألواناً مختلفة على الزهرة الواحدة فتصبح الزهرات اصطناعية ونحن في الواقع امام زهرات طبيعيات جداً. وإذا تحولنا الى موقفهن من سوريا فنجد ان خُمسهن من أتباع «اي يلا سوريا طلعي برا» وواحدة قالت «إلى اللقاء سوريا»، ما يفقد التوزيع الديموقراطي توازنه ليسقط في سلة الغالب والمغلوب عددياً وذلك على الرغم من انهن من بنات تظاهرة 14 آذار. هنا انتبهت الى ان تظاهرة 8 آذار لم تنبت أي زهرة، لكن سرعان ما عزّيت نفسي لانه، والحمد لله، توحّدت التظاهرتان وتلاقحتا وأنجبتا مولودهما الجديد القديم رئيساً لمجلس كل النواب. لكن الولادة أتت بسرعة ما دفع البعض الى القول همساً ان الزواج هذا قد تم حتماً قبل إعلانه بكثير.
5 ــ ما هي مكوّنات التربة التي استُنبتت فيها زهرات المجلس النيابي؟ انها تربة منوّعة وخصبة تحتوي على أسمدة مختلفة أهمها الدم أي الشهادة والسجن والمنفى بحيث أتى توزيع الزهرات الجميلات على الشكل التالي: ثلاث منهن استنبتن من تربة الشهادة، واحدة من تربة المنفى، وواحدة من تربة السجن. يبقى واحدة وهي استنبتت استطراداً وكجملة اعتراضية، من تربة النحيب على الشهادة. وهنا وجدت الريشة نفسها أمام أربعة ألوان حيث لا مجال للعدالة العددية وللديموقراطية والعيش المشترك وال... لكن المراقب يستطيع، إن صفت نيّته، ان يوحّد كل هذه الألوان لأن زهرات المجلس كلهن تفتّحن تحت الخيم وذلك على الرغم من الخلاف الذي وقع بين رافعي تلك الخيم في آخر المشوار. لكن التوحيد كما التنوع غير الموزون يُفشل البحث عن الديموقراطية المنشودة.
6 ــ ننتقل الى الشعارات التي أُطلقت في مناخ الانتخابات التي أتت بهذه الزهرات. من أهم هذه الشعارات هو ان من لا ينتخب «معك» هو قاتل أو من أنصار القتلة، فما هو توزّع الزهرات بحسب هذا الشعار؟ التصويت الشعبي أفرز خمس زهرات «معك» وواحدة «ضد»، طغى لون على الآخر وسقطت من جديد الديموقراطية وهذا أمر مرفوض في دولة كلبنان الذي يشكل النموذج الحي للتعايش والوفاق والمساواة.
7 ــ أما العائلة والنسب فهما من مكوّنات كل زهرات الباقة التي أهداها المجلس الكريم لنفسه. كلهن ينتمين الى عائلات كريمة، فاثنتان منهن زوجتان لرئيسي جمهورية سابقين وواحدة شقيقة رئيس وزراء سابق وواحدة ابنة نائب سابق وواحدة زوجة قائد سابق وعائد. أما السادسة فهي بنت عائلة عريقة ومقربة من رئيس وزراء سابق. نرى هنا أيضاً ان الامر تعقّد أمام الريشة لأنها وجدت نفسها أمام ما يشبه اللون الواحد، فسقطت المعادلة المنشودة.
8 ــ ربما استطعنا ان ننعش الديموقراطية المحبطة حتى الآن، اذا نظرنا في التوزيع المناطقي لهذه الزهرات. لكن واقع الحال يظهر لنا ان اثنتين منهن استنبتتا في بيروت ولو ان إحداهن كانت جائزة ترضية، وواحدة استنبتت في جبل لبنان وواحدة في الجنوب واثنتين في الشمال. أين واحدة البقاع؟ الجواب جاهز: البقاع وبخاصة الشمال منه، هو منطقة متخلفة ومهملة إنمائياً ومعيشياً و... والزهور العطرة لا تنبت في السهول المهملة المتخلفة، فلكي يرقّ ملمس الزهرة ويفوح عطرها، عليها ان تنبت في حدائق القصور المترفة. لكن على الرغم من كل الأقاويل المغرضة نرى ان الديموقراطية تعثّرت أيضاً في هذا المجال.
9 ــ أما العطر والملمس فلنبحث إن كانا يشكلان قاعدة للتوزيع الديموقراطي بين زهرات البرلمان. لكن هنا أقرّ بعجزي عن التحليل لأنني لا أعرف عطر وملمس كل زهرة من زهرات برلماننا الست ولا أعرفهن إلا عبر الصورة والصوت من على شاشات الفضائيات، وهي معرفة قائمة على الأدوات المعرفية الذكورية السائدة حتى الآن ولأن الأدوات الإنسوية لم تجد بعد طريقها الى التداول. وهذا يتطلب شرحاً طويلاً يستطيع القارئ ان يتجاهله أو، اذا كان حشرياً، ان يعود الى دراسة حول الموضوع نشرتها ملحقاً لإحدى رواياتي. المهم اني أقر بفشلي هنا، لكن العارفين بخفايا الأمور يصرّحون بأن كل زهرات البرلمان، ما عدا واحدة، لهن ملمس الحرير وعطر الخليج الساحران. أما الأخيرة فعطرها أتت به ربما من المنطقة الحرة في أحد مطارات باريس. لكنني مع العطور الجميلة مهما تنوّعت مصادرها. واذا ما تابعنا الموضوع من حيث الصورة والصوت فنجد انه أصبح في إمكان البرلمان ان ينظم مباراة لانتخاب ملكة جمال البرلمان 2005 ــ 2006، مع العلم ان الأمر محسوم سلفاً، لكن ربما سمحت لنا مثل هذه المباراة ان ننصب الديموقراطية على قدميها لأن المتباريات سينقسمن ثلاثاً بثلاث أي ملكة الجمال والوصيفتين من جهة والثلاث الباقيات من جهة أخرى فتتحقق العدالة العددية وتستطيع ريشة المراقب ان تلون الزهرات بلونين واضحين يمثّلان التوافقية والعيش المشترك. أما بالنسبة إلى الصوت فالسامع يدرك جيداً ان هناك أصواتاً تخدش الآذان وأخرى تريحها. لكن هنا أيضاً القسمة ستبقى غير عادلة لأن إحدى الزهرات لم تسمعنا صوتها حتى الآن ولا يجوز الحكم قبل اكتمال عناصره.
10 ــ وحيث اننا في مجال الصوت والنطق، وخطرت ببالي مقولة الفجور وهي مقولة ملصقة بالنساء عادةً ولا أقصد بالفجور إلا ما يتعلق منه بنبرة الصوت وارتفاعه وما شابه ذلك وليس الفجور إلا أخلاقياً. في هذا المجال المحدد أظهرت لنا المرحلة الأخيرة زهرتين فاجرتين، إحداهن ما زالت صورتها عالقة في ذاكرة المراقب وهي تقفز في ساحة الشهداء وهي تصرخ بأعلى صوتها: «فرطوا فرطوا»، بينما الثانية وهي من الزهرات القديمة التي لم نسمع صوتها الا في المرحلة الأخيرة وهي تنتحب على الشهيد الكبير ما دفع البعض الى القول ان نحيبها كاذب لأنه ظهر في بعض الأحيان وكأنه يفوق نحيب الشقيقة المفجوعة فعلاً. إذاً نحن أمام توزيع عددي غير موزون يسقط مجدداً محاولتنا إرساء الديموقراطية على أسس سليمة.
11 ــ وعلى ذكر القديم والجديد، خطر ببالي ان أنظر الى الزهرات من هذه الزاوية وما إن خطرت ببالي هذه الزاوية حتى شعرت بأنني أقترب من الحل، إذ ان زهرات البرلمان منقسمات بالتساوي بين جديدات وقديمات. لقد صحّ التوازن وتحققت الديموقراطية. لكن سرعان ما تبادر الى ذهني البحث في مفهومي القديم والجديد وتبين لي ان القديم يتميز بالتراكم، فطرحت السؤال: «ماذا راكمت السابقات من أفعال أو مواقف أو... يجعل منهن فعلاً موجودات قبل الزمن الراهن؟ لم أجد إلا تراكم السنين فقط وهو تراكم تأنف منه الأنثى وترفض ان تُصنّف على أساسه ووجدت نفسي من جديد أمام البحث عن الحل.
12 ــ انتبهت إلى انني أهملت حتى الآن بحث موضوع الإنسى وقلت لنفسي ربما وجدت ضالتي في محاولة النظر في نشاط برلمانياتنا في ميدان حقوق بنات جنسهن. ليتني أجد المناصفة هنا كي أقفل الموضوع وأستنتج ان شرط وصول النساء الى البرلمان هو أن يكون عددهن منقسماً بالتساوي بين من يردن أن تنال الإنسى حقوقها وبين من لا يردن ذلك، وهو شرط يوافق عليه الذكر حتماً لأن المعادلة تلك توصلنا الى لجم كل مناداة بحقوق الإنسى لكن حين استعرضت واقع الحال فوجئت بفراغ مخيف هو صمت مدوّي، لكني عزّيت نفسي بكل تفاؤل وفكرت ان هؤلاء الزهرات الكريمات ربما كنّ لا يهتمن بهذا الموضوع لأنه موضوع كثر «علكه» وهن مع المواضيع الأكثر أهمية والأكثر عمقاً، فموضوع حقوق الإنسى هو من اختصاص الجمعيات النسائية وتوابعها بينما هن نائبات عن الأمة، كل الأمة ولا يجوز لهن الاهتمام بنصفها فقط. هذا التبرير الموضوعي جداً دفعني الى بحث اهتمامات «ممثلاتنا» الكبيرة والتي تطال كل الامة من دون تفريط بأي جزء منها. هنا أعترف بأنني لم أكتف بالبحث، بل لجأت الى السؤال، سؤال العارفين بأمور الكتابة والنشر وما الى ذلك ولم أعثر الا على بعض التصريحات الصحافية الظريفة ونصوص بعض الكلمات التي أجمع كل العارفين انها ليست من تأليفهن، بل كتبها أيضاً لهن المساعدون والمستشارون والمقربون جداً من ممثلات الأمة ولأنهم مقربون جداً فهم يعلمون تماماً ما تريد إحداهن قوله أو كتابته، ولهذا السبب يأتي قولهم مطابقاً كلياً لقولها لو أرادت هي القول أو الكتابة. (يبدو ان عند العرب الأمية ليست عيباً للنساء). لكن ما يهمنا من كل ما تقدم ذكره ولكي لا نخرج عن الموضوع، هو انني لم أجد بعد المقياس الذي على أساسه أستطيع بناء المناصفة التوافقية.
13 ــ الفشل السابق دفعني الى إقفال الموضوع وإن محبطة من عدم قدرتي على العثور عما ترتكز عليه الديموقراطية التي أوصلت نائباتنا الى المجلس النيابي. لكن ما كدت أقفل الموضوع حتى دخلت عليّ إحدى جاراتي وهي جارة قلّما أفرح بزيارتها، لأنها إن تميزت بشيء فبالسذاجة إن لم نقل بالهبل، لم أرحب بها كعادتي، لكنها بادرت الى القول بلهجتها الكسروانية الصحيحة: «ما شفتش التلفزيون؟» وحين أجبتها بنعم، تابعت: «ما اشتلأتيش عشي؟» هززت برأسي نفياً، فتابعت: «كنت مفكرة إنو النايبات خمسة، طلعو ستة تلاته منهن شقر وتلاته سمر». حين سمعت قولها هزئت من نفسي واقتربت منها وقبّلتها وأنا أردد بصمت: «خذوا الحقيقة في لبنان من أفواه الهبلان». لقد التقطت الجارة الساذجة وبكل بساطة وسرعة ما أمضيت وقتاً طويلاً في البحث عنه من دون جدوى. أمام انجلاء الحقيقة الفاقعة هذه رأيت الريشة تنغمس في اللون الأبيض وتلوّن ثلاث زهرات من الباقة البرلمانية ثم انتقلت الى اللون الأحمر وطلت به الثلاث الباقيات، ترددت قليلاً ثم انغمست في اللون الأخضر ولوّنت به وريقات الزهرات الست وإذ بالعلم اللبناني يرفرف أمامي بكل كبر وعزة وسمعتني أهتف بصوت مرتفع: «عاشت الديموقراطية وعاش لبنان».
هامش: أستعمل كلمة «إنسى» بدل «إمرأة» وهو ما بيّنت أسبابه في دراسة منشورة سابقاً.
* أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية