رياض صوما *
بعد توقّف العدوان الاسرائيلي الأخير، انطلقت فجأة وعلى موجة واحدة، مجموعة شعارات. لا حلّ إلا بقيام الدولة. حبيبتنا الدولة. نريد الدولة الآن الآن وليس غداً. الويل لمن يقف في وجه الدولة. اغتيال الدولة. الدولة أولاً، الأردن أولاً. لبنان أولاً... إلخ.
بدا الأمر، وكأنه فعلاً ليس لدينا دولة، أو كأنّ أحداً ما أعطى إشارة الانطلاق، فاندفع المعنيون في وقت واحد، زعامات وصحافيين ومثقفين إلخ... فإذا كان لبنان يفتقر إلى «دولة»، فما اسم هذه التشكيلة الأمنية السياسية الإيديولوجية التي استطاعت تجميد الأجور عقداً من الزمان، ووفّرت للشريحة المميزة من الرأسمالية اللبنانية، اكثر من ثلاثين مليار دولار أرباحاً ريعية خدمة للدين العام، وأنجزت تدجين الحركة النقابية، وتغذّ السير للإجهاز التام عليها، ونجحت في إعادة اغلبية المواطنين الى منعزلاتهم المذهبية، وألحقت بشكل أو بآخر قسماً لا بأس به من قوى ورموز المعارضة الوطنية واليسارية السابقة، وتعزّز يومياً قدراتها لقمع أي تحدّ حقيقي لسلطتها الطبقية المشتركة...؟ ولائحة التساؤلات تطول. يسارع منظّرو الحملة، وخاصة ذوي الأصول القومية واليسارية، المكتشفين أخيراً اهيمة «الدولة»، إلى الإيضاح.
الواقعيون منهم يكتفون بالمطالبة بدولة تشبه باقي دول المنطقة، وخاصة تلك الموصوفة بالاعتدال. أما المثاليون فيحلمون بالمثال السويدي، المثال الذي يفجعون دائماً بعدم تحققه، حتى بجنازير الدبابات الأطلسية، غافلين او متجاهلين، حقيقة أن هذا الشكل للدولة اللبنانية، هو بالضبط ما يرغب به ويعمل على تعـــــميمه في المنطقة، النظام العالمي الجـــــــــديد، الذي يراهــــــــنون على نياته الحسنة.
يبدو أنهم يصدّقون أن بول بريمر تصرّف بغباء عندما فرض على العراقيين دولة لا دور لها عملياً، سوى تنظيم الحرب الأهلية. ويبدو كذلك أنهم نسوا ألف باء التحديد العملي للدولة، الإدارة المشتركة للرأسمال، وأن مقياس نجاحها بالنسبة لمراكز القرار الدولي، هو بمقدار ما تضمنه من شروط لتحقيق معدلات عالية من الأرباح، لا بمقدار استجابتها لأحلام بعض المثقفين، حديثي العهد بالأوهام اللبرالية. ووفق المعيار، تعدّ تلك المراكز الدولة اللبنانية ناجحة، أما ما تطلبه منها فشيء آخر. ونحن نفهم لماذا تتمسك الطبقة الحاكمة، قبل الطائف وبعده، بـ«دولتها». ونفهم هذا الدعم «العالمي» لسلطة السنيورة و14 شباط. كما نفهم لماذا عُدّ رياض سلامة افضل حاكم مصرف مركزي في العالم.
وإعجاب مثقفينا المشار اليهم بالسنيورة «رجل الدولة»، يعني أنهم معجبون بالدولة التي ساهم في بنائها. وبالتالي، فإن معركتهم الحالية ليست من أجل دولة افضل، بل من أجل المزيد من الشيء ذاته. أي من أجل دولة تكون اكثر التزاماً بمصالح الرأسمال الريعي المهيمن وأسياده الدوليين. فصراخهم الراهن حول «ضرورة» الدولة، عن حسن نية أو عن سوئها، لا يصبّ موضوعياً في مسار آخر. وليتّضح المسار المقصود، لا بد من الإصغاء الى غوندوليزا رايس وهي تتحدث عن: البنّائين والهدّامين، وعن الدولة ضمن الدولة، وعن تحالف المعتدلين، إلخ...
أما ما نسمعه على ألسنة السياديين، فليس إلّا الصدى. ولن يجدي سؤال الآنسة المصون غوندي، لماذا تعدّ سلاح البيشماركة دعماً «للدولة»، بينما تعدّ سلاح حزب الله أو حماس، خطراً عليها؟ ولماذا تعدّ سلاح المتمردين في دارفور مقاومة مشروعة، بينما سلاح الجنجويد إرهابياً؟ فالجواب جاهز: هناك فارق بين اسلحة الهدامين وأسلحة البنائين. ونجد أنفسنا بعيدين عن كل ادعاءات التحويل الديموقراطي، وقد عدنا الى اللغة الإيديولوجية للحرب الباردة.
في ذلك المناخ، كانت فرق الموت في أميركا اللاتينية طلائع تدافع عن العالم الحر بوجه اليسار الدولي، (لم يكن اليسار الديموقراطي على الموضة آنذاك)، والميليشيا الكتائبية لم تكن دولة ضمن الدولة، بل ضمانة لوطن الأرز «قبل ثورة الأرز»، تصدّ أصحاب الأفكار المستوردة، حسب لغة ذلك الزمان، وحيث كان الطالبان، ما غيرهم، مقاتلو الحرية!!!
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني.