نجيب نصرالله
لن تُجدي الوساطة الجديدة في ترويض الجموح القاتل لأي من أطراف الصراع، وخصوصاً أولئك الذين يمنون النفس باستمرار التأزيم ودوامه، وليس هذا هدفها.
لن تُجدي الوساطة الجديدة نفعاً، لأنها ببساطة كلية ليست كذلك، ولا تمت إلى مفهوم الوساطة بصلة، إنها، والحق يقال، نوع ملطف من أنواع العدوان، الذي شهد لبنان ما يشابهه جوهراً، طوال ثلاثة وثلاثين يوماً كاملاً، هذا إن لم تكن استمراراً له.
لن تجدي الوساطة الجديدة نفعاً، لأنها على غرار مسرحية «الحوار الوطني»، تستبطن هدر الوقت وتأجيل الاستحقاقات السياسية الداهمة، وفي الطليعة منها استحقاق إسقاط الحكومة الثأرية والاستئثارية القائمة، بأخرى ذات قاعدة تمثيلية واقعية، قادرة على حفظ لبنان، أو ما بقي منه.
لن تُجدي الوساطة الجديدة، لأن أول وأبرز أهدافها هو استنقاذ السلطة القائمة من خطاياها الفادحة، التي جعلت من الداخل اللبناني ملعباً للجيوش والدول، و«بوديوم» لسفراء الدول الكبرى.
ثم إن الوساطة إن صح أنها كذلك، ولا يمكن لذلك أن يصح أبداً، تستلزم نزاهة وحيادية في الطرف الذي كُلف عبء هذا الدور، دور لم الشمل وتقريب ذات البين، في حين أن مواقفه المنحازة لم يجف حبرها بعد.
ثم إن المسألة، وهنا الأهم، ليست خلافاً بدوياً أو عشائرياً سببه الخلاف على ملكية هذه الناقة أو البعير، فيكون الصلح باللجوء إلى طريقة العشائر أو البدو. الأمر أكثر تعقيداً من ذلك وأخطر، الأمر له صلة بوجود أو لا وجود، له صلة بسقوط المنطقة وثرواتها تحت النير الاستعماري الجديد، له صلة أيضاً، باحتمالات ضياع كلي لفلسطين، أيضاً وأيضاً له صلة بالخوف من إمكان ترميم التوازن المفقود، الذي كان ولا يزال للطرف الذي يتلفع بعباءة الوساطة اليوم، دوراً تاريخياً أكيداً في جعله فاضح الاختلال، بل وعديمه. الغريب في الأمر أن من يستصعب الكلام أو الحوار مع أفراد أو جماعات من شعبه (هو بالمناسبة يفضل تعبير الرعية على تعبير الشعب) يحاول الكلام أو إقامة الحوار مع شعب آخر. ثم يمكن الإضافة والتساؤل المحق عن سر هذه المكرمة الملكية التي تفوتها تعقيدات الوضع الفلسطيني، ولماذا لا تجد سبباً، مع أنها أكثر وألح من الأسباب اللبنانية، لمد اليد إلى هناك، إلى الداخل الفلسطيني، حيث تلوح مخاطر الاقتتال الذي سوف يرتدي هو الآخر عباءة مزورة هي عباءة الاقتتال الداخلي، في حين أن جوهر الأمر وحقيقته لهما صلة بمصالح طرف فلسطيني تفريطي، أخرجته الإرادة الشعبية الفلسطينية من السلطة، وها هو يحاول استعادتها عبر التهديد بالبندقية.
الأمر الأكيد والواضح والذي لا يحتاج إلى إقامة البينة، لأنها قائمة، وتوازي الشمس في حقيقتها، له صلة بقرار وبدور جديد، ليس ببعيد عن الدور الأول الذي حمل عنوان المغامرة، وكذلك مرتبط بأمر العمليات الذي وضعته كوندوليزا رايس خلال جولة تكتيل «المعتدلين العرب».
لم يُعرف عن هذا الطرف سابقة في لعب دور الوساطة، كذلك لم يعرف عنه خبرة في التوسط، أو في تقريب وجهات النظر، وخصوصاً أن ثقافته الحوارية تكاد تكون مقصورة على ركيزة وحيدة، هي ركيزة جماعات «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (المطاوعة)، الوساطة تحتاج إلى ثقافة أخرى مغايرة للثقافة السائدة، التي تكاد تقتصر، وهي مقتصرة فعلاً، على ثقافة المال الأسود، وشراء الذمم، وتجريد المواطنين من أبسط حقوقهم الدنيوية وحتى الدينية، وكذلك من حقهم في الجنسية، كحال المثقف العربي الراحل عبد الرحمن منيف. من واجب اللبنانيين، كل اللبنانيين الحذر، فالعدو الذي هُزم عند البوابات الجنوبية يحاول اليوم التسلل، وقد تلفع بالعباءة العربية، على نسق المجموعات التي سبق للعدو الأصلي استخدامها للنيل من نشطاء الانتفاضة الفلسطينية إبان الانتفاضتين الأولى والثانية، التي حملت اسماً حقيقياً هو «المستعربون».
«المستعربون» قادمون، هلا أحسنا وفادتهم.