ليلى نقولا الرحباني *
تعود الأصول الفكرية للمحافظين الجدد الى مجموعة مفكرين يهود ظهروا في حقبتي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وعُرفوا بمجموعة سيتي كوليدج أوف نيويورك. والمفارقة اللافتة أن بداية النظريات السياسية لهؤلاء جاءت من الفكر اليساري التحرري المتمثل في القيم الاجتماعية والاقتصادية المنادية بالمساواة. لكن مع مرور الوقت وإزاء التحفظ على النظام الشيوعي السوفياتي، وقمع الحريات الذي مارسه ستالين، تحولوا إلى مجموعة فكرية تعادي الشيوعية الى أقصى الحدود.
بحسب العديد من الباحثين الاميركيين، لا يشكّل المحافظون الجدد حزباً «سياسياً» بقدر ما هم تيار أيديولوجي فضفاض يعتمد ميراثاً فكرياً متعدداً وثقافةً سياسيةً متناثرة، ترتكز على بضع مبادىء أساسية عامة يوجّهون السياسة الخارجية من خلالها أهمها:
1) نظام الحكم الداخلي هو محور السياسة: يقيم المحافظون الجدد أهمية خاصة لشكل الحكم الداخلي ونظامه والقيم المصاحبة له. وعليه، فإن السياسة الخارجية للنظم الديموقراطية ومنها الولايات المتحدة الأميركية يجب أن تعكس قيم المجتمعات الليبرالية، وعلى الأميركيين نشر هذه القيم في العالم.
2) تقع على الولايات المتحدة مسؤولية حماية أمن المجتمع الدولي وسلامه، بالتالي لا مانع من استخدام القوة الأميركية للوصول إلى أهداف أخلاقية. وعليه، تأتي الدعوات الى استعمال القوة والاحتلال لفرض قيم الديموقراطية وحقوق الانسان.
3) الاعتقاد بأن محاولات تحقيق العدالة الاجتماعية من طريق تدخّل الدولة تفتّت العلاقات الاجتماعية وتدمر الكيان الاجتماعي والاقتصادي برمته، وتأتي بنتائج عكسية. من هنا يبرز المحافظون الجدد كدعاةٍ لليبرالية المتوحشة وأدواتها الاقتصادية المهيمنة.
4) عدم الثقة بفاعلية المؤسسات الدولية والقانون الدولي للوصول الى الأمن والعدالة، وقد برز هذا التوجه جلياً من خلال الدعوات الى إلغاء الامم المتحدة، وإن تعذر ذلك، فتهميشها.
في حقبة الحرب الباردة، قام ألبرت هولستر وولفوفيتز وغيرهما من رموز التيار المحافظ بترجمة هذه الأسس النظرية إلى برامج سياسية مناهضة لسياسة «المدرسة الواقعية» كما رسمها هنري كيسنجر التي تميزت بمفهوم الردع المتبادل والتوازن الاستراتيجي ومهادنة الاتحاد السوفياتي في مرحلة «الانفراج الدولي» التي أرساها حكم الثنائي «نيكسون وكيسنجر».
ومع بزوغ الثمانينيات، وجد المحافظون الجدد ضالتهم في الرئيس رونالد ريغان الذي اتسمت سياسته الخارجية بالتشدد حيال الاتحاد السوفياتي، أو ما سمي آنذاك بـ«إمبراطورية الشر»، حيث لاحت في الأفق ملامح حرب باردة جديدة أرساها ريغان بعدما أطلق مشروع «حروب النجوم»، بدأ على أثرها التلاحم الفكري بين المفكرين المحافظين واليمينيين من إدارة الرئيس ريغان الذين اتحدوا في مواجهة النظريات الواقعية السائدة والسياسة الخارجية المنبثقة منها.
أما الحدثان التاريخيان اللذان شكّلا مفصلاً مهماً لتيار المحافظين الجدد في حقبة التسعينيات، حينما بدأت أفكاره تسيطر على كثير من مراكز الأبحاث الاميركية، فهما: سقوط الشيوعية، والثورة التكنولوجية.
كان لانتهاء الحرب الباردة الأثر الكبير في تعزيز تيار المحافظين الجدد وإحياء الثقة بأفكاره. فقد جاء سقوط الاتحاد السوفياتي المفاجئ وانهيار المنظومة الاشتراكية، بمثابة إعلان صريح واعتراف واضح بانتصار الفكر الرأسمالي الليبرالي الذي يمثلونه، حيث لم يتوان أحد منظّري هذا التيار وأشهرهم «فوكوياما» عن إعلان نهاية التاريخ، نهاية الحروب، ونهاية الأفكار الواقعية كما جسّدها مورغنتاو وكينان وكيسنجر وغيرهم. إن غياب العدو خلق لديهم وهم التفوق الكاسح للفكر الليبرالي في مواجهة نظيره الشيوعي والواقعي، وصاحَب هذا الوهم اعتقاد بأن الحكومات المستبدة قابلة للسقوط بسهولة ومن دون آثار سلبية، وبأنه بمجرد انهيار النظام القديم ستكون الديموقراطية تحصيل حاصل. وترتب على هذا الاعتقاد إمكانية استخدام القوة لإسقاط أنظمة الحكم المناوئة لقيم الديموقراطية الأميركية.
التطور الثاني الذي عزّز موقف المحافظين الجدد، هو الثورة التكنولوجية وما رافقها من ظهور الأسلحة الذكية وتفوق أسلحة التحكم عن بُعد والتصويب الدقيق، التي كان لها الأثر الكبير في إزالة «عقدة فيتنام» من ذهن المسؤولين الأميركيين، والخوف من التورط في حروب إقليمية تعرّض الجيش الأميركي لخسائر في الأرواح، وتستنزف معنويات المجتمع الأميركي ككل.
ومما لا شك فيه أن التطور التكنولوجي الهائل في الصناعة العسكرية خلق توجّهاً جديداً في السياسة الخارجية الأميركية، التي باتت أكثر جرأة في اعتماد الحل العسكري، وقد زاد النجاح في كوسوفو وحرب الخليج الثانية امكانية التوجه الى خيارات جديدة أهمها التدخل العسكري المباشر، مما أعطى ثقةً وصدقيةً لفكر المحافظين الجدد، ولم يبق إلا أن تُترجم أفكارهم هذه الى سياسةٍ خارجية بأن يتبنّاها أحد الرؤساء الأميركيين، وهنا أتى دور الرئيس جورج بوش الابن.
سيطر المحافظون على إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، ما أدى إلى تحولٍ ملحوظ في السياسة الأميركية منذ توليه السلطة. فظهر في قاموس السياسة الخارجية واستراتيجيا الأمن القومي مصطلحات جديدة أبرزها: «الهيمنة الأميركية الحميدة»، «تغيير أنظمة الحكم بالقوة»، «شرعية استخدام القوة العسكرية في حرب استباقية» التي ما لبثت أن تطورت الى مفهوم «الحرب الوقائية»... ونتج من هذه الأفكار أجندة سياسية تبيح للولايات المتحدة الاميركية بالتحديد، لا لأي قوة أخرى، حق التدخل العسكري لإطاحة أي حكم ترى أنه يهدر قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان ويهدد الاستقرار العالمي، وذلك ضمن إطار القيام بمسؤولياتها كقوة عظمى منوط بها الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
ــ ولكن، إلى أين يتجهون؟
اليوم، وبعد الإخفاقات المتعددة التي تشهدها سياسة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان... يبدو أن التململ بدأ يظهر جلياً في صفوف المفكرين المحافظين، حيث بدأ بعض مؤسسي مدرسة «المحافظين الجدد»، وأبرزهم فرنسيس فوكوياما، يعيدون النظر في طروحاتهم الفكرية التي انبثقت منها سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وقد جاء كتابه الجديد (ربيع 2006) تحت عنوان «أميركا على مفترق طرق... الديموقراطية والقوة وميراث المحافظين الجدد» ليكشف ضعف السياسة الأميركية بشقيها النظري والعملي.
انتقد فيه فوكوياما غزو العراق الذي استند الى استخبارات مضللة ومعلومات كاذبة تفيد بامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل ووجود علاقة بين صدام حسين وتنظيم القاعدة. ومن وجهة نظره، إن أخطاء السياسة الأميركية تتجسد في المبالغة حيال خطر التطرف الاسلامي، وعدم توقعها ردود الفعل والآثار السلبية الناجمة من الهيمنة، وانعدام الرؤية لديها إذ توقعت أن يؤدي الاحتلال إلى إحلال السلام في منطقة الشرق الاوسط.
ويظهر من خلال هذا الكتاب أن الافتراق بين فوكوياما والادارة الاميركية يتجلى في نقاط عدة أهمها:
1) خطر التطرف الإسلامي: يرى فوكوياما أن التطرف الإسلامي لا يكمن في عودة السلفية الأصولية والتدين، بقدر ما هو رد فعل على العولمة التي أدت الى زعزعة هويتهم تحت وطأة طغيان المادة. وفي ضوء ذلك، يرى أن المسلمين بصورة عامة لا يشكّلون خطراً أمنياً على الولايات المتحدة، ويلاحظ أنهم لا يشككون في جدوى قيم الديموقراطية، بل يعترضون على السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. ويعتبر فوكوياما أن مصدر التهديد الحقيقي لأميركا يكمن في المجتمعات الإسلامية في الغرب التي تعاني الاغتراب وفقدان الهوية.
2) إرساء الديموقراطية في الشرق الأوسط: لا يرى فوكوياما أية علاقة مباشرة بين ديموقراطية النظم في الشرق الأوسط وأمن الولايات المتحدة، فإرساء الديموقراطية في الشرق الأوسط لا يعني بالضرورة أمن الولايات المتحدة، والتطرف الاسلامي السائد ليس بالضرورة نتيجة غياب الديموقراطية. ويلاحظ أن السياسة الأميركية في هذه المنطقة أدت إلى دفع التيارات الإسلامية إلى الصدارة، كما يتضح من فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وصعود الإخوان المسلمين في مصر وتأجيج الصراعات الدينية الطائفية في العراق.
3) شرعية استخدام القوة العسكرية: يشير فوكوياما الى الفاعلية المحدودة للقوة العسكرية، وخاصة إذا ما استُعملت لمواجهة المد الإسلامي الأصولي، حيث إن مقاومة المجاهدين في أفغانستان والعراق لا تحتاج إلى تدخل عسكري، بل إلى احتواءٍ سياسي يستهدف عقل الشعوب الإسلامية وضميرها في أنحاء العالم.
يستنتج فوكوياما، أخيراً، أن كشف حساب السياسة الخارجية الأميركية هو سلبي في محصّلته، فالقوات الأميركية متورطة في حرب ممتدة في العراق تعيد للأذهان حرب فيتنام المأساوية. بالاضافة الى انعدام صدقية الإدارة الأميركية في العالم، وعداءٍ متنامٍ لها في المجتمعات الإسلامية التي تضم حوالى مليار نسمة، وفتور حلفائها التقليديين في أوروبا الغربية وآسيا. والأهم من ذلك، من وجهة نظر فوكوياما، أنها في خضم حربها على التطرف الإسلامي حوّلت انتباهها بعيداً عن التحدي الحقيقي المتمثل في القوى الصاعدة في آسيا، التي تتطلع الى منافسة الولايات المتحدة على مركز القوة العظمى. من المؤكد، أن الإدارة الأميركية تواجه مأزقاً كبيراً بعد فشل سياساتها في الشرق الاوسط، فالعراق يبدو كأنه على فوهة بركان حرب أهلية طائفية، وأفغانستان مهددة بالعودة الى عصر طالبان الظلامي، و«الشرق الأوسط الجديد» الذي بشّرت به كوندوليزا رايس خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان، يبدو أنه لن يبصر النور... إن ملامح هذا المأزق لا بد من أن تنجلي في انتخابات الكونغرس الاميركي في تشرين الثاني المقبل، التي يتمنى «توماس فريدمان» في إحدى مقالاته الحديثة في «نيويورك تايمز» هزيمة الجمهوريين فيها، لكي تنسحب هذه الهزيمة على إدارة الرئيس بوش ومَن وراءه من المحافظين الجدد.
ويبقى أبلغ تعبير عن هذا المأزق، ما أعلنه أحد أبرز منظّريهم «فرنسيس فوكوياما» في كتابه، إذ قال: «إن حركة المحافظين الجدد كرمزٍ سياسي وكيانٍ فكري، تطورت الى شيء لا أستطيع بعد الآن تأييده».
* باحثة في القضايا الإستراتيجية