توفيق المديني *
العراق الذي يعيش منذ الغزو الأميركي له في آذار 2003 صراعاً حاداً وعنيفاً بين المقاومة العراقية على اختلاف مكوناتها وقوات الاحتلال الأميركي، يعيش في الوقت عينه حرباً أخرى في الظل غير معلن عنها، قد تكون أشد فتكاً وضراوة وتفكيكاً لوحدته، هي الحرب الأهلية. هذه الحرب التي لا نتحدث عنها إلا قليلاً، لأن الأنظار كلها مشدودة إلى تقويم نجاحات وإخفاقات الاستراتيجية الأميركية في العراق، ولاسيما أن هذه الاستراتيجية الأميركية تعتمد في تعاطيها مع الواقع العراقي على رؤية استشراقية تصف هذا البلد العربي بكونه تجمّعاً لأقلّيات دينية وعرقية عاجزة عن العيش معاً في كيانات دولة وطنية. وترتكز الحلول المقترحة من أجل خدمة الديموقراطية ومصالح أميركا معاً، والمفترض أنهما مترابطتان، على استخدام صريح للطائفية في إطار استراتيجية تعرف بالـ «فوضى البنّاءة».
بعد مرور ثلاث سنوات على سقوط بغداد إثر الغزو الأميركي للعراق، جراء مغامرة ورعونة المحافظين الجدد الذين أجرموا بتفاؤلهم المفرط بعد الحرب على العراق وبالطريقة التي ظنوا بها أن العالم سيرحب بالهيمنة الأمريكية، وبعد أن أصبح الشعب الأميركي نفسه يخشى نشوب حرب أهلية في العراق ،إذ إن كل اثنين من أصل ثلاثة أمريكيين يتوقعان ذلك، لا يزال المسؤولون في الإدارة الأميركية غير متفقين مع هذه الرأي. فالرئيس الأميركي جورج بوش نفسه، ووزراؤه المعنيون مباشرة ــ دونالد رامسفيلد (الدفاع)، وكوندوليزا رايس(الخارجية)، وديك تشيني(نائب الرئيس)، قد حاولوا على مدى الأشهر الماضية إضفاء قيمة على الجوانب «الإيجابية» للحرب: سقوط الديكتاتورية، محاكمة الديكتاتور، الانتخابات الديموقراطية، والصحافة «الحرة» إلخ. ويجمع المثقفون الغربيون المتخصصون في شؤون الشرق الأوسط، مثل جون مويلر، وباري بوزن، وستيف ستيدمان، وجيم كوفمان، على أن العراق صار مسرحاً لحرب أهلية، وأنه ليس صحيحاً أن ثمة مخاوف من حرب أهلية. هذه الحرب بدأت منذ فترة طويلة نتيجة سلسلة الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون والتي صبت في انفلات الغرائز. وهم يرَون أن هذه الأوضاع المأساوية في العراق من نتاجات إخفاق الاستراتيجية الأميركية. فإدارة الرئيس بوش المتبنية لإيديولوجية المحافظين الجدد، والتي عملت جاهدة على إيصال رسالة واحدة إلى العالم كله، ولا سيما العالم العربي كمفهوم جديد في العمل السياسي متمثل بالشعار الذي سوقه الإعلام الأميركي وهو «الفوضى الخلاقة»، أصبحت تتحدث الآن في آخر تصريحات الرئيس بوش، عن أن العراق يواجه الآن خيارين، إما الفوضى أو الوحدة.
ويعكس هذا التصريح خطورة الوضع في العراق، وإخفاق إيديولوجية «الفوضى الخلاقة» التي نشرت الفوضى في العراق، إذ بات وجود الاحتلال الأميركي المحرك الرئيسي لهذه الفوضى وعدم الاستقرار، ولخطر اندلاع الحرب الأهلية. ففي آخر تقرير نشرته «مجموعة الأزمات الدولية»، وحمل العنوان المرعب التالي: «الحرب العراقية المقبلة»، طلبت هذه الأخيرة من الدول المجاورة للعراق الاستعداد للسيناريو المؤسف: «تفكك العراق»، لكنها أبقت فتحة لإنقاذ الوضع، وعرضت حلولاً، منها أن تحدد الولايات المتحدة الأميركية جدولاً زمنياً لانسحابها.
في العراق، فيروس الحرب الأهلية موجود منذ عهد النظام السابق الذي مارس ديكتاتورية رهيبة ضد الطوائف الشيعية والكردية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وظل محتضناً في مخبر الديكتاتورية. لكن ما يجري في العراق الآن ليس نزاعات طائفية، بل هو حرب أهلية، رغم أن الكثير من المراقبين السياسيين يراها البداية...
العراقيون ليسوا أحراراً في أن يعلنوا ما يدور في عقولهم ، أو أن ينتموا إلى أي مجموعة معينة، أو أن يمشوا في الشوارع من دون أن يخاطروا بحياتهم. فالسلطة قد انتقلت في الواقع إلى ميليشيات غير ديموقراطية، تفرض قوانينها بقوة السلاح، وتقيم محاكم صورية تحكم باسم الشريعة . فلا يوجد هدف مثالي أفلاطوني للغزو يمكن مساندته. إنه لا يوجد إلا في عقل المحافظين الجدد وإدارة الرئيس جورج بوش، وقنابلها الانشطارية، ونموذجها الاقتصادي المستوحَى من فلسفة صندوق النقد الدولي. فهذه الإدارة الأميركية هي التي أملت الحرب بطريقتها المعروفة، بحثاً عن السيطرة الاستراتيجية على منابع الثروة النفطية، وحجتها الكلاسيكية في ذلك، البحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق.
وها هو اليوم المؤرخ فرانسيس فوكوياما الذي اشتهر بإعلانه عن «نهاية التاريخ»، والذي يقسم إنه لم يكن يوماً من المحافظين الجدد، يقوم حالياً بنقد ذاتي. ففي كتابه الجديد «أميركا عند مفترق طرق» يسحب فوكوياما دعمه لحرب العراق: «إن إدارة بوش تمادت وتجاوزت حدودها، وهي تعدو بسرعة وإرث الولاية الأولى». فقبل انهيار الاتحاد السوفياتي بكثير من الوقت، رأى أنّ نموذج الديموقراطيّة الأميركي يستعدّ ليصبح معياراً عالمياً.
لقد شكّل الديكتاتوريّون الذين يتمسكون بالحكم الاستبدادي عقبة في وجه تقدّم التاريخ. لذلك قامت الولايات المتحدة التي اكتسبت قوّة عسكريّة جبّارة بعد العام 1989 بمدّ يد العون إلى التاريخ. بعد مرور ثلاث سنوات، وجد فوكوياما نفسه معاقباً. فبفضل الإدراك المتأخّر للأمور تراه أيقن الآن أسوةً بغيره من المحافظين الجدد أنّه كان ساذجاً حين أيّد تغيير النظام في العراق.
ما الخطأ الذي اقترفه المحافظون الجدد في نظر فوكوياما؟ أوّلاً، خضع المحافظون الجدد للوهم القائل بأنّ «الهيمنة الأميركيّة الحميدة» قد تلقى ترحيباً كبيراً في الخارج. ثانياً، كانوا مقتنعين بالعمل الأحادي المنجز. ثالثاً، اعتمدوا سياسة وقائيّة ترتكز على تكهن المستقبل أكثر ممّا كان ممكناً. إضافةً إلى ذلك استخفّ المحافظون الجدد بأخطار الديموقراطيّة في الشرق الأوسط كأن يفوز الإسلام الراديكالي في الانتخابات.
وفي هذه الحال، يركز العقلاء في العالمين العربي و الإسلامي على ضرورة تجنب الحرب الأهلية، عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل كل الأطراف السياسية العراقية، تكون قادرة على بلورة مشروع وطني ديموقراطي لإعادة بناء الدولة الوطنية العراقية المحايدة تجاه الدين، وتحسين الأوضاع الأمنية وتقليل الاحتقانات الطائفية، وعدم إسناد وزارتي الداخلية والدفاع والمخابرات إلى أي جهة طائفية ميليشياوية، والعمل على عقد مؤتمر دولي يناقش جدولة الانسحاب الأميركي النهائي من العراق.
* كاتب تونسي