خالد صاغيّة
منذ أن نُشر الرقم 654965 الذي يشير إلى عدد القتلى في العراق منذ الغزو الأميركي، بدأت المقارنات سريعاً بين هذا الرقم وبين ما كان يقع من قتلى في عهد الرئيس العراقي السابق صدّام حسين. طُرح عدد ضحايا نظام صدّام من عدد ضحايا الاحتلال الأميركيّ، وجاء الرقم أكبر من الصفر. فبدأت اللعنات تنزل على الحرب وساعتها، وبدأت الدموع تنهمر على الضحايا.
عاقدو تلك المقارنات أرادوا أن يظهروا كم كان مشروع بوش «التحريري» فاشلاً. ذلك أنّ عهد صدّام، على ظلمه، صار يبدو أكثر رحمة. إلا أنّ ما يفوتنا أمر جوهريّ، وهو أنّ الحرب لم تُخض أصلاً من أجل تحسين وضع المواطن العراقيّ. الحرب خيضت من أجل تحسين وضع المواطن الأميركيّ الذي قيل وقتها إنّه مهدّد بأسلحة الدمار الشامل التي يملكها صدّام. وجاء لاحقاً تبرير الحرب بدعاوى نشر الديموقراطية التي لم تكن هي الأخرى نابعة من فكرة تحسين وضع المواطن العراقي، بل من وهم أنّ النظم الديموقراطية ستكون تلقائياً حليفة للولايات المتحدة، تماماً كما أدّت الدمقرطة في أوروبا الشرقية إلى نقل دولها إلى المعسكر الأطلسي. ويمكننا أيضاً أن نضيف أنّ الديموقراطية كانت الاسم الحركيّ للرجل الأبيض الذي لا يستطيع أن يتخيّل عالماً على غير صورته ومثاله.
حتى الذين ينقلبون على الحرب اليوم ويدعون إلى سحب الجيوش الأجنبية من العراق، إنّما يفعلون ذلك باسم جعل شعوبهم هم (البريطانية أو الأميركية في شكل خاص) أكثر أمناً. فبما أنّه لا أسلحة دمار شامل في العراق، وما دام الوجود العسكري الغربي يغذّي الغضب الإسلامي ضد حكومات غربية، فلننسحب. لا يُطرح الانسحاب من باب ما يوفّره للشعب العراقي، ولا من باب حق العراقيين في الاستقلال وفي تقرير مصيرهم.
إنّ وهم تحسين نوعية عيش العراقيين لم يساور إلا بعض الواهمين العرب الذين صدّقوا ذات يوم شعار «دعوا الحرية تسُدْ».
العراقيون كانوا يُستحضرون. نعم. لكن للقول إنّ موتهم لا يعني بالضرورة أمراً سيئاً. تماماً كما استُحضِر الجنوبيون إبان العدوان الأخير. فقيل عن موتهم وعن تدمير قراهم إنّ هذا ليس إلا آلام المخاض. لا يعني ذلك أنّ علينا ألا نحزن لهذا الموت وحسب، بل علينا أن نصفّق له أيضاً. وفي لبنان، كما في العراق، ثمّـة من كـــــان يصفّق لآلام المخاض وينتظر الولادة بشوق.
الرقم 654965 صار رقماً مهماً لا لكونه رقماً كبيراً، بل لأنّه بالضبط أصبح رقماً يمكن مقارنــــــــــته برقم ضحايا صدّام حسين. كلا الرقمين يحصيان قتلاً مجانياً، قتلاً لا يفضي، وفـــــقاً لأي منظور، إلى انتقال المواطن العراقي إلى حياة أخرى. لكن حين بدأت الطائرات الأمـــــــيركية بقـــــــــصف العراق، سقطت الضحية رقم 1. ولم يُـذرف الدمع عليها. ثمّ تـــــــلتها الضحية رقم 2 ورقم 100 و1000. كان القتل آنذاك يُعتبر ثانوياً، والحياة الإنسانيّة ثانوية، ما دام مشروع كبير يلوح في الأفق. مشروع إدخال العراق إلى الجنّة التي تعدّها الإدارة الأميركيّة لشعوب المنطقة.
إنّ الدموع التي تذرف اليوم على الضحية رقم 654965 مرفوضة. وهي مرفوضة لأنّها بالضبط لم تحترم الضحيّة رقم 1 ولا الضحية رقم 2. لأنّها شرّعت بصَمْتها قتل الضحية رقم 1 وقتل الضحية رقم 2. يُفاجأ العالم اليوم بأنّ الـــــــــــعراقيّين ليسوا نسخاً من يسوع الـــــــــــــناصريّ، وأنّ صلبهم لم يحمل خلاصاً لأحد، على رغم أنّ ثمّة من كان يقتسم أرضهم ويقترع على نفطهم. ثمّة أيضاً من غسل يديه من دمهم، ثمّ انصرف ليتفرّج عليها من بعيد.