فادي بردويل
أزمة البنزين. أزمة المجتمع المدني. أزمة الرغيف. أزمة الحكم. أزمة الديموقراطية وأزمة المثقّفين العرب. بالإمكان انتقاء أي موضوع أو مفهوم من المشرق إلى المغرب، ووضع كلمة “أزمة” قبله، فيصبح صالحاً لعنونة مقالة، كتاب، ندوة جامعية، أو حلقة تلفزيونية. أزمة شاملة تجتاح الحضارة، والاقتصاد، والثقافة، والاجتماع، والإيديولوجيات، والفكر، والفرد، والقانون، والدولة... في هذه الرقعة من العالم. أزمة تنتشر كالطاعون. أزمة تتمدّد في جسد الأمة. أزمة تشلّ قدرة هذا الجسد المرهق أصلاً، على الحركة والمناورة. تلك الأزمة الشاملة التي تستوطن هذه البلاد منذ أكثر من ربع قرن تنام على عرشها مطمئنة. لم يجرؤ أي مفهوم آخر على منافستها من أجل محاولة فكّ شيفرة تلك المجتمعات المعاصرة وأهلها. إنها الزعيم الأوحد الذي يتحلّق حوله القومي والماركسي، الإسلامي والليبرالي، ومن دار في فلكهم.
يرتبط مفهوم الأزمة ارتباطاً وثيقاً بفكرة عدم وضوح المستقبل الذي تصعب قراءة ملامحه في اللحظة الراهنة. إنما ما يميّز “الأزمة” عن سائر المحطّات الضبابيّة في حياة الفرد أو تاريخ الشعوب، هو ضغط الوقت المتفاقم الذي يرافق تلك المحطّات. ضغط لا مجال للتفلّت منه. ضغط تشتدّ قبضته على عناق البشر ليجعل مستقبلهم مجهولاً وحاضرهم رمالاً متحرّكة.
أمّا حين يُستخدم مفهوم “الأزمة” للحديث عن أزمة الديموقراطية وأزمة الحريات وأزمة الحقوق وأزمة الفرد والعقلانية ــ وما شابهها من أزمات تتصدّر لائحة الأجوبة عن سؤال: ما هي أبرز سمات الواقع العربي المعاصر؟ ــ فيفقد مفهوم الأزمة ميزته. فتتحوّل “الأزمة” إلى مجرّد مرادف للشحّ والقلّة والنقص والغياب والانعدام. ويصبح بالتالي ممكناً الجواب عن السؤال السابق عن الواقع العربيّ باستبدال “أزمة الـ...” بالمصطلحات التالية: نقص في العقلانية وغياب الديموقراطية وقلّة الحقوق وانعدام الفردانيّة. ففي هذا الجواب، لا مكان للسمة الأبرز للأزمة، أي عامل الوقت المتفاقم والحاسم. فكيف يضغط الوقت على شيء ما ويهدّد بقاءه ومستقبله، فيما ذلك الشيء لا وجود له أصلاً؟ الواقع أنّ ما يميّز أزمة الحكم عن أزمة الديموقراطية مثلاً هو بالضبط ذلك الضغط الذي يهدّد ويشتدّ مع مرور الوقت، جاعلاً استشراف المستقبل أكثر صعوبة، والحاضر أقلّ استقراراً مما كان عليه في السابق. الاختلاف ما بين الاستعمالين يحمل دلالة ثانية، إذ إنّ “الأزمة” في الحالة الأولى (أزمة المواد الغذائية أو أزمة الحكم مثلاً) تعبّر عن تشخيص لواقع ملموس مرتبط بالحياة اليومية للناس. أمّا الاستعمال الثاني السائد للأزمة (الديموقراطية، الحقوق، العقلانية) فيرتكز على مجهود فكري يرمي إلى إظهار ما يرتئيه هؤلاء المحللون من مكامن للخلل في المجتمعات العربية. فبالإمكان أن يُجمع أقطاب الحقول الثقافية على استفحال أزمة الديموقراطية والفرد والتنوير من دون أن يعيش المواطن تلك الأطروحات الفكرية كأزمات وجودية تزعزع استقراره وروتينه اليومي. أمّا الإصرار على تفسير الوضع الراهن لتلك المجتمعات ومشاكلها بمفهوم الأزمة، بمعنى القلّة والانعدام، فهو في الحقيقة لا يفسّر شيئاً ولا يشخّص واقعاً. وإن دلّ على شيء، فعلى الطريق الذي يجب على تلك المجتمعات أن تسلكه في المستقبل. ذلك الطريق ــ النموذج الذي يضمن سلوكه التطهّر من الآفات المستفحلة في بلداننا. فالحديث عن بلدان العالم الثالث يجري دائماً حسب صيغة الاتجاهات التي يجب أن تسلكها السياسة والاقتصاد فيها مستقبَلاً، فيما بلدان العالم الأول لا يوصف لها طريق ما من أجل حلّ مشاكلها (الفقر، والعنصرية)، فأنظمتها هي نهاية الطريق.
... كان الحاج عبّاس يساوي بين انزعاجه من مذاق الموز وفيضان الأزمات. فكان كلما ظهر “أزمتجي” على شاشات التلفزيون أو صفحات الجريدة، ينظر إلى ابن أخيه الشاب بنظارتيه المسنودتين إلى طرف أذنيه، يفقش أصابعه لضبط الإيقاع، ويردّد هازئاً: “بعد شوي ويطيب... بعد شوي ويطيب”.