جورج قرم *
في خضم المناقشات والتجاذبات التي نعانيها في لبنان، وخاصة منذ استصدار مجلس الأمن القرار الشهير (1559) في شأن لبنان الذي فتح الباب على مصراعيه لزعزعة استقرار البلاد، يبدو أن بعض السياسيين والمحللين اعتمدوا في شكل نهائي منهج السذاجة المطلقة في قراءة التطورات الإقليمية والدولية والتعامل مع تأثيراتها على مصير منطقة الشرق الأوسط. وقد أصبحت هذه القراءة الساذجة منهجاً حديدياً متحجراً يحول دون ممارسة العقل النقدي والقراءة المتأنية البعيدة النظر. والحقيقة أن هذا المنهج ليس بالجديد في لبنان، بل تمتد جذوره إلى تأسيس النظام الطائفي في نصف القرن التاسع عشر مترافقاً مع تدخل القوى الإقليمية والدولية الكبرى في حياة اللبنانيين بجميع أوجهها.
ما هي المكونات الأساسية لهذا المنهج الذي شهدنا أيضاً اعتماده خلال الحرب الشعواء التي عصفت بلبنان بين 1975-1990؟ هذا ما سنستعرضه هنا سعياً إلى تغيير هذا المنهج المؤدي الى عدم التفكير ورفض ممارسة العقل النقدي ما يؤدي بدوره دائماً إلى أشد الضرر بلبنان.
من أهم سمات هذا المنهج الانبهار بكلام الدول الغربية أو الشرقية الكبرى والاعتقاد بأنه في مكانة الكلام المنزل والصادق. فإذا قالت الحكومة الأميركية بأنها تعمل لأجل نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط، نؤمن بهذا الكلام إيماناً مطلقاً ونُعجب به، وإذا قالت فرنسا، كما كانت الحال في الماضي، بأنها آتية إلى لبنان لحماية المسيحيين (1861) أو أنها أسست لبنان الكبير ترضيةً للمسيحيين، فنحن نؤمن بهذا الكلام إيماناً أعمى، وكأن الدول الغربية الكبرى هي جميعها جمعيات خيرية تعمل لمصلحة البلدان المستضعفة. وإذا قالت الولايات المتحدة إن حماس وحزب اللّه هما من المنظمات الإرهابية وعلى قدم المساواة مع الحركات الجهادية والتكفيرية، فنأخذ فوراً بعين الاعتبار هذا الطرح للمطالبة بنزع سلاح حزب اللّه. وإذا قالت الولايات المتحدة بأنها ستعمل حتماً لإيجاد حل للنزاع العربي الإسرائيلي وتأتينا بخريطة طريق جديدة، فنحن نأخذ هذا القول على أنه قول صادق وأن الأمور ستسير قريباً إلى الأحسن في المنطقة بفضل جهود أميركية جديدة.
وعودة إلى اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، فقد اعتقد الكثير من اللبنانيين بالسذاجة المطلقة أن الدولة العبرية آتية الى لبنان لإنقاذ اللبنانيين من أعمال الفلسطينيين وهيمنتهم على لبنان وأنها ستنسحب بعد تحرير البلاد ومن دون قبض أي ثمن. وفي المنطق نفسه، فإن أهل السذاجة رأوا أن غزو العراق بحجة وجود أسلحة الدمار الشامل والتخلص من الديكتاتورية كان عملاً من أجل المصلحة العامة الإقليمية والدولية، وهلمّ جرّا من اعتبار كلام الدول الكبرى كلاماً مقدساً ينمّ فقط عن الحرص على السلام العالمي والخير العام. وهذه المدرسة نفسها، إذا سمعت كلاماً من دول إقليمية مهمة مثل إيران، على ضرورة إزالة إسرائــــــــــــــــــيل لإحلال السلام في المنطقة، فهي ستؤمن فعلاً بأن هذا الإعلان يهدد استقرار المـــــــــــــــــنطقة وأنه كلام غير مقبول على الإطلاق، مـــــــــــــتناسيةً أن الجدل الكلامي هو في صلب الحرب الـــــــــنفسية التي تميّز دائماً السياسة الدولية، وخاصة في منطقتنا، وأن من يصعّد كلامــــياً لا ينوي بالضرورة الدخول فـــــــي حالة حرب، بل ربــــما العكس هو الصحيح.
ويمكن إعطاء المئات من الأمثلة من هذا النوع التي تدل على أن منهج السذاجة ينطلق في نظرته هذه الى أن الدول الكبرى، وخاصة الغربية منها، هي بمثابة جمعيات خيرية، وبالتالي ليست لها خطط مبنية على ما تعتقد بأنه مصالحها الحيوية الضيقة والتي تلبِّسها لباس المفردات عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، وأن الحياة الدولية منقسمة فعلاً الى قوى الشر، وهي القوى التي تحددها هذه الدول الكبرى الغربية، وقوى الخير والحداثة والحضارة المتمثلة في الدول الغربية.
ومن اللافت للنظر أن منهج السذاجة يعتبر فعلاً أن هناك «مجتمعاً دولياً» يتجسّد في شكل حصري في قرارات مجلس الأمن، من دون أي تحليل لميزان القوى داخل مجلس الأمن وأروقة الأمم المتحدة. وهو يعتقد أيضاً بأن أي تقرير صادر عن الأمم المتحدة هو أيضاً مثل الكتاب المنزل لكون الأمم المتحدة تجسّد «الإرادة الدولية»، فلا يمكن أن تدخل هذه المنظمة طرفاً في أي نزاع أو أن تكون مطيّة للدول الكبرى، كما حصل على سبيل المثال في اختراع «الخطّ الأزرق» عند انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 لقضم مساحات واسعة من الأراضي اللبنانية وإبقاء منطقة مزارع شبعا خارج الحدود اللبنانية، خلافاً لخط الحدود المعترف بها دولياً وفي اتفاق الهدنة مع إسرائيل.
واللافت للنظر في منهج السذاجة أنه ينقلب فجأة إلى منهج مكيافيلي واقعي عندما يصطدم بالانتقادات الشديدة. فنرى عندئذ أنصار السذاجة يتحولون إلى أصحاب النظرة العميقة الاستراتيجية والتكتيكية في آن معاً. فهم يردّون على منتقديهم بحجة مزدوجة. الأولى تدّعي بأنه لا بد من المضي في خطط الدول الكبرى لأنها خطط لا تُقهر والوقوف ضدها يجلب المصاعب والبلاء على البلاد. لذلك يجب أن نمارس «الواقعية» وألاّ نتهرب من المسؤولية في أحلام وخيالات بعيدة عن الواقع. أما الثانية، وهي بطبيعة الحال الأكثر سذاجة، فهي تقول بأن على لبنان أن يستفيد من التغيّرات الدولية وأن يستغلّ ويوظّف سياسات الدول الكبرى لمصلحته، وكأن الذكاء اللبناني الخارق في السياسة المحلية والدولية والتكتكة والباطنية والتزلّف والمآدب مع كبار القوم من صانعي القرار في العالم ستجعل من الدول الكبرى ومن إسرائيل وفرنسا مطيّة لذوي الكفاءة من أهل هذا المنهج.
وقد رأينا نتائج هذه المدرسة الفكرية وممارساتها في جميع الفتن التي دخلت بها البلاد في تاريخها المعاصر من فتنة 1840-1860، إلى فتنة 1958، الى فتنة 1975-1990، إلى الأوضاع المأساوية التي نعيشها اليوم منذ صدور القرار 1559 الذي أعطى إسرائيل الذريعة للتهجم على لبنان في الشكل الهمجي المخالف لكل مبادىء الأمم المتحدة والذي تعرضنا له في صيف هذا العام، وهي تدّعي بأنها تطبّق القرار 1559 الذي عجزت الحكومة اللبنانية عن تطبيقه بنزع سلاح الميليشيات. والمشكلة طبعاً أن هذه المدرسة ترفض الدخول في حوار جدّي مع من يقول بأن على لبنان أن يحتاط من مشاريع الهيمنة الغربية على المنطقة، وأن لا يقبل بتعديات إسرائيل المتواصلة على سيادة لبنان، برّاً وبحراً وجوّاً، وهي تجسّد أطماعاً تاريخية لهذا الكيان بتدمير لبنان أو تفتيته ووضع اليد على مياهه والأراضي الخصبة في الجنوب.
ومما يزيد المشكلة صعوبة أن أهل هذا المنهج هم جزء من مدرسة فكرية عربية ترى أن الطريقة الوحيدة للحصول على السلام والحق العربي من إسرائيل أو الولايات المتحدة المتمركزة عسكرياً وسياسياً في المنطقة بكثافة والمحتلة للعراق، هي المزيد من التنازلات أمام المحور الأميركي ــ الإسرائيلي، بل، أكثر من ذلك، الانخراط في صميم هذا المحور. وهو منطق تلتبس عنده النتائج والأسباب، ولا يفرّق بينها في تحليل الوضع المأزوم في المنطقة المتميز بالممارسات القمعية المتواصلة الناتجة من الاحتلالات الأميركية والإسرائيلية. فيدخل بالتالي في المنهج الأميركي ــ الإسرائيلي في التفكير الاستراتيجي الذي يعتقد بأن الإرهاب في شكل عام ومن دون التفريق بين الأنواع المختلفة من أعمال العنف هو السبب الوحيد لعدم الاستقرار في المنطقة وعدم نشر الديموقراطية، ولا يرى بالتالي أن العنف هو نتيجة الاحتلالات وسياسة القوة والهيمنة والقمع وليس العكس.
وقد دخل أيضاً الكثير من أهل السذاجة اللبنانيين والعرب أو المسلمين في الاعتقاد بأن المشكلة الرئيسية هي مشكلة حضارات وثقافات وأديان، وأنها ليست مشكلة حق وقانون وعدل مبنية على مبادىء ثابتة وراسخة بما فيها القانون الدولي. فبدلاً من أن نطالب نحن العرب بوقفة جماعية وجريئة بحقوقنا الشرعية، ندخل في جدالات لا نهاية لها في الهويات والخصوصيات والثقافات ضمن المنطق الأعوج الذي أُسس منذ نهاية الحرب الباردة حول صراع الحضارات الذي حلّ محل الصراع السياسي والزمني والموضوعي، المبني على تحقيق سيادة الحق والعدالة في الميدان الدولي.
ومن المؤسف حقاً أن يكون الكثير من العرب واللبنانيين، من صانعي القرار والمفكرين والإعلاميين، قد قبلوا بمقولة حرب الحضارات والمقولة المعاكسة بضرورة العمل من أجل حوار الحضارات التي انطلقت من إيران في عهد الرئيس خاتمي، بدلاً من الوقفة الجماعية بين كل العرب لتأكيد تمسكنا بمبادىء الشرعية الدولية المتمثلة في موضوع فلسطين بقرارات معروفة من الجميع، وفي موضوع الشرق الأوسط بالمبادىء العامة المعروفة أيضاً التي لا تقر بالحروب الاستباقية كما شنّتها الولايات المتحدة على العراق بحجج واهية وكاذبة. ونحن اليوم عرباً ولبنانيين نستنكف بصمت مطبق عن الدفاع عن المبادىء الأساسية الدولية للقضايا التي تخصنا، بل أكثر من ذلك، نقبل بأن يصدر من الأمم المتحدة تقارير منحازة تماماً إلى إسرائيل أو منحازة إلى فئة من اللبنانيين من دون رفع الاحتجاج رسمياً، وكذلك بأن تصدر قرارات لا تحترم مبادىء شرعة حقوق الإنسان، وبالتالي تجعلها في طي النسيان بفعل استصدار قرارات عشوائية تضرّ بالمصالح العربية ونسكت عنها.
وعلى الرغم من أن لدينا في مجلس الأمن دولتين كبيرتين لهما حق النقض، وهما الصين وروسيا، فإن تشتت وتبعثر المجموعة العربية، وصمتها في معظم الأحيان، هي من العوامل التي لا تساعد هاتين الدولتين على العمل من أجل احترام حقوقنا لدى مجلس الأمن، إلا عندما يتوحد الصوت العربي ويقف وقفة واحدة متواصلة. وفي غياب مثل هذا الموقف في معظم المناسبات والظروف، فلا يمكن أن نطالب الصين وروسيا بأن يكونا «ملكيين أكثر من الملك»، ناهيك عن الوضع اللبناني الحرج حيث الانقسام الحاد في الرأي تجاه الموقف من إسرائيل وسلاح المقاومة يحول دون وقوف أية دولة غربية كبيرة إلى جانبنا. ويمكن أن نرى كيف أن الصين وروسيا تقفان في وجه الولايات المتحدة وأوروبا في موضوع الملف النووي الإيراني لأن الإيرانيين موحّدون في حكومتهم للتصدي للموقف الغربي.
إلى متى ستبقى مجموعة مهمة من اللبنانيين والعرب وما تبقّى من السلطة الفلسطينية تعمل، بوعي أو من دون وعي، من أجل مساعدة مشروع الهيمنة الأميركية ــ الإسرائيلية في المنطقة، وبالتالي زيادة عدم الاستقرار وابتعاد موعد سلام مبني على احترام الحق ومبادىء العدل التي من دونها ليس من سلام حقيقي؟ هذا في الحقيقة يتطلّب بذل المزيد من الجهود السياسية الفكرية، ليس فقط على الصعيد اللبناني، إنما أيضاً على صعيد العالم العربي، لتغيير المناخ العام وخلق دائرة قناعات تتوسع بالتدريج في محاور عديدة من المسائل الكبرى التي تقسم العرب واللبنانيين في ما بينهم.
ومن هذه المسائل الموقف من دولة إسرائيل وسياسة المهادنة على جميع الأصعدة، الكلامية منها في شكل خاص، إذ إن الصعيد العسكري بات مقفولاً منذ قبول الدول العربية جماعياً، ومنها سوريا، الحل السلمي «خياراً استراتيجياً». وفي هذا الإطار، لا بد من وضع الضغوط المعنوية والأخلاقية والأدبية على الحكومات العربية والإعلام العربي لكي تتخذ المواقف المبدئية الصلبة الخاصة بتطبيق مبادىء القانون الدولي وقواعد الإنسانية في ما خص الوضع الفلسطيني واللبناني والجولان السوري المحتل، وبحيث تصبح هذه القضية محورية في العلاقة مع الولايات المتحدة، ما قد يتطلب استدعاء السفراء في ظروف معينة أو تجميد أو تخفيف علاقات ثقافية واجتماعية أو موقف جماعي من بعض تقارير الأمم المتحدة المنحازة إلى إسرائيل، إلى آخره من هذه المواقف التي لا تفتح الباب لأي نوع من المغامرة العسكرية.
ولا بد هنا أيضاً من خلق المناخ الضاغط على الحكومات العربية والنخبة الإعلامية العربية لكي تبتعد من اللعب البشع بالمشاعر الطائفية والمذهبية في المنطقة والكفّ أيضاً عن زجّ القضايا الدينية والمذهبية والعرقية في المواقف من الوضع الإقليمي المأزوم. وإذا كانت أميركا وإسرائيل وأوروبا تلجأ في شكل متزايد إلى الطروحات الدينية والعرقية الطابع لتبرير سياساتها، وإذا كان الكيان الصهيوني مبنياً بالأساس على تلك المقولات، فإننا نحن العرب لا نحتاج إليها لأنه لو كان الغزاة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق من الديانة الإسلامية أو البوذية أو الهندوسية، لكنّا قد حاربناهم بالشدّة نفسها. ولذلك لا يمكن تبرير احتلال الأراضي باعتبارات حضارية ودينية، وكذلك الأمر في ما يتعلّق بمقاومة هذه الاحتلالات بحجج حضارية ودينية. وهذا ما يُضعف الموقف العربي وفي شكل خاص المقاومتين اللبنانية والفلسطينية وكذلك المقاومة العراقية للاحتلالات.
علينا في الحقيقة الولوج إلى حالة جديدة من الجرأة المعنوية والفكرية تُخرج نزاعات الشرق الأوسط من دائرة الكلام الثرثار على الحضارات والثقافات والأديان لإعادته إلى إطاره الزمني الصحيح ألا وهو احتلال ثم احتلال ثم احتلال... بغض النظر عن عرق أو دين أو مذهب الغزاة والمحتلين والعابثين بحقوقنا.
* وزير المالية الأسبق - مفكر وكاتب