بَاسكال لحود *
احتجَّ حاجبا عليّ عندما قلت له إنّي مُهجَّرة... لكن سرعان ما اتضحت الأمور في رأسه المحشو شعاراتٍ وخطباً سياسيةً، هو المقيم في قلب هموم الوطن على رغم سنواته العشر، وسأل من باب تجاهل العارف:
ــ «بريح»؟
ــ أجل... لكنك لا تعرفها... لا تعرف إلا أنها ما تبقّى خلف حرف الاستثناء الوحيد في ملف المهجرين، ذاك الذي لم يستسغ من أدوات اللغة سوى حروف النصب.
ولكن لا عليك فأنا أيضاً لا أعرفها... ومن يوم عرفتُ أنني من «هناك» وأنَّ عليّ أن أحمل جذوري على كتفيَّ بانتظار أن أعود إلى هناك، خططتُ الهناك على رمل البال بإصبع الشهوة، إصبعٍ صغيرة يا عليّ، كانت تمتد إلى بيوت بكفيّا و«شلال» ساحتها (كل ما يُخرج ماءً أغزرَ من ماء الحنفية هو لأطفالِ التهجير... شلال)، أن: أريد قرية متل هَيْ (هذه بالبريحية)! ويصفعك إذّاك صوت الكبار: لا نشيرُ بأصابعنا، عَيب! أتسمع يا عليّ؟ لا نشير بأصابعنا، وإنْ تحوَّل جسمُنا كله إصبعاً مشدودة إلى مُشتهى لا يُقطف... لا نشير بإصبعنا... تبلع الغيرة ريقَها وتضرسُ من قضمها حصرمَ الوعد... وتظلُ الإصبعُ تحفرُ في قعرِ الجيب «متل هَيْ» بهيروغليفية الشهوة. لا تشتهِ قرى الآخرين يا علي لئلا تعديهم بمجرَّد مدِّ الإصبع بَرَصَ التهجير، فأنت مهجَّر الآن وعليك ان تتعلّم أخلاقياتِ المهنة.
لكنَّ علياً يعرف أنه لن يقيم مطولاً في وصف المهجَّر، لذا يمسكُ بالحديثِ من أذنه ويعيدني إلى بريح... التي لا يعرفُها.
ــ ليس الذنبُ ذنبَكَ... إنه ذنبُها.
ذنبها أنها ليست معقلَ أيٍّ من سفّاحي «الصفِّ الأول»، فلم يسارعْ أحدٌ ليعلنَ لائحتَهُ الانتخابيةَ منها. ليست على الطريق السعيدِ الصاعدِ من الدامور إلى المختارة مروراً بدير القمر، المفروش لِفُجّار المصالحات. لا تستضيف بريح من مهرجانات الفنون سوى أسراب غربان تهجُّ إليها من ضجيج بيت الدين، ولا هي على الصدع الفاصل النبطيةَ عن مشغرة ليخشى أحدُهم أن يتصل بزوالها جناحا النسرِ الشيعي. هي فقط ما لا يسمح «لوالي الجبل» أن يستريحَ. ألم يقلْ ذات يوم إنَّه «علينا أن ننسى بريح لنستريح»؟ قالها بِمَكر من يدرك أن في إمكانه أن يدسَّ لسانه في جراح الناس، ساعةَ يشاء، ولن يجدَ من يصفقُ بوجهه باب الوفاق. لكنَّه لا يقولُها على التلفزيون، فكيف لك أن تسمعَ يا علي؟
ــ لماذا «بريح»...؟
ــ ... لأن في بريح ما لا يندمِلُ ولا يُقَطَّب بِمِسلَّة الوفاق، فيها حِدادٌ أمّيّ لا يجيد قراءة الأرقام على شيكات العودة الذليلة، فيها نزيف ورائحة موت، فيها مذابحُ (جمع مذبح) تقف في الهواء الطلق، ومذابحُ (جمع مذبحة) دُفنت في الرياء الطلق. فيها مواسم التبستْ عليها الفصول، وأشجارٌ مثمرة تلتْ صلواتِ الاستسقاء دهراً، ثم آثرتْ أن تتعوّد العيش بعلاً، عندما أيقنتْ أن غيمَ الوعد الذي يهبُّ عليها عشية الانتخابات يُمطر بعيدًا...
شطحتُ مجدداً بعيداً من السياسة... فاستدركتُ عندما أسدل علي جفنيه مللاً:
ــ إسمع الشكوى لوحدك، أما هم فلا أريدهم أن يسمعوا. لن أضيِّفهم غضبي وجبةَ شفقةٍ سهلةَ المضغ والهضم... أنا التي همّي، كلُّ همّي، أن أدكَّ هيكل «المصالحة» فوق رؤوسهم، لأستريح، أنا والوطن وبريح. همّي أن أبقى حسكة في حلق العودة الذليلة، حصرماً في أعين مَنْ همُّهم أن يرحموا الجلاد من قسوة الضحية، فإذا بهم يقرِّصون له لحم الأبرياء «كبَيْباتٍ» صغيرةً لئلاّ يتشردق، ويقسّطون له عودتَنا تقسيطاً مريحاً قابلاً للتمديد بل التأبيد... وإذا بإعلامهم يحقنُه يومياً بمنشّطات الحمية الوطنية والزعامة التاريخية، علَّه يصدِّق... لكنَّه يحتاج فوق كل ذاك، على رغم كل ذاك... أن يستريح، من همّ «بريح»!
كان عليّ يسمع باستغرابٍ قصةَ البطولةِ المقلوبةِ، ويحاولُ أن يفهم سرَّ فخري بعدم العودة:
ــ إذاً أنتم لا تريدون أن تعودوا..!
ــ نحن لم نخرج لنعود... مقيمون نحن في شوقنا إلى شوف «مغيّب»... سنعود وإيّاه، أما السجن الكبير الذي أخذ مكان شوفِنا على خريطة الدوائر الانتخابية وكانتونات الطوائف... فلا يعنينا.
عليّ لم يفهم... لا يفهمُ كيف في إمكاني أن أعيشَ مهجَّرة، ولا أصرخ... وأنا لا ألومُه. الحقيقة أنني أحسدُه، كما كنت أحسدُ طوني ابن «رميش».
ــ «رميش»؟
«رميش» بدت له شيئاً واقعياً في غمرة الرموزِ التي أمطرتُه بها.
ــ أجل، كان طوني رفيقَ طفولتي... رَمَت بنا أمواجُ التهجيرِ ذاتَ خريفٍ في مدرسة واحدة نتعلمُ فيها لغةَ متن الوطن. كنت أحسدُه، لا لأن جميعَ رفاقنا، وهم من سكان متن الوطن الأصليين، كانوا يسخرونَ منهُ عندما يقول «يا رِيت إني بالجنوب...» كاسراً أناه والتمني شأنه شأن اللسان الجنوبي عامة... فقد كانوا يسخرون مني أنا أيضاً، من شيناتي المرشوشةِ على كل منفيٍّ: « بقدرش» و«بديش» و«بعرفش»، ومن دالي الأقرب إلى الضاد، وضادي الأقرب إلى الظاء... كنت أحسده فقط لأن الجميع يغني لقريته، أما أنا فجرحي يخجل به الجميع... كان طوني، تماماً كما هو عليٌّ اليوم، ابنَ معاناة وقضية... أما أنا فلقيطة. لا يا عليّ، ليس اللقيط من تُرِكَ صباحَ نزوة على عتبة مسجد، بل أنا... أنا التي تبرّأ منّي الوطن مرتين: مرّة يوم تركَهُم يعمّدونني، غصباً عني، ثمرةَ زنى خلَّفها الاجتياح، ومرة أخرى، عندما تركهم يفلشون إسفلتَ السلم فوق أشلائي، ويتركونني وحيدةً خلف حرف الاستثناء.
أفهمتَ يا علي؟ سأعود... لكنني لن أسمحَ أن يضيِّفوني مفتاحَ بيتي... لطالما جرحني وصفي بالمهجرة، لكنني اليوم فخورةٌ به، لأنه شاهد على حقيقة أنّ هناك من هجَّرني، مَن يؤرقُهُ تشبّثي بغربتي، من ليست زعامته الوطنية سوى ترخيصٍ للجرائم الباردة والمواقف «القبّوطية». لم نكمل حديثنا عليّ وأنا، إذ إنّ خبرَ ثكنةِ مرجعيون أطبقَ على شهيّة الحديث وشيء من جدواه. عاد عليّ... وهو اليوم يهاتفُني باستمرار، ليروي لي بفخر ورضى فصولاً من مغامرة العودة إلى ركام بيت كان له في بنت جبيل، ومشروعِ ركامٍ ما هو سوى بيتِهِ المتصدِّعِ في حيّ السلُّم. لا يقصد عليّ أن ينكأ جرحي... ولا أن يشمتَ بقصوري... علي يقول فقط إنني لم أصرخ بما يكفي. عودةً ميمونةً يا علي... لكنك نسيتَ قبل أن تخرجَ أن تدوسَ على قدمي... علَّني أتعلمُ الصراخَ، وأقلعُ عن المواء... وعلّك تجلبُ عليَّ نحسَ العودة. وإذا كان للعدوى أن تسيرَ في الأصابعِ في الاتجاهَين، فاعلم أنني أشيرُ إليك كلَّ يوم وأقول: أريد عودةً متل هَيْ!
* كاتبة لبنانية