وائل عبد الفتاح *
هناك من يقول إن السادات لم يمت. نظامه مستمر. طال عمره بطلقات خالد الإسلامبولي. وهناك من يعتبر انه مع الطريقة الدرامية التي مات بها السادات انتهت مرحلة حكم ضباط الثورة، واننا مع مبارك دخلنا عصر الحكام الموظفين. لا كاريزما ولا زعامة من موديل عبد الناصر المغرم بقيادة الجماهير الى عالم جديد أو موديل السادات الصاعد من ظل الزعيم الى أضواء النجم الأوحد من دون مقدمات ولا توقعات من أحد.
الرأي الأول سهل وقديم والرأي الثاني يحتاج الى تفكير.
1 - لا أعتقد ان السادات كان من البساطة بحيث يمكن اختصاره.
كان رئيساً استعراضياً. تعتبره بعض فصائل المعارضة خائناً لانه لم يسر على خطى عبد الناصر.
ويمتد الخط على استقامته لنراه لاعباً في فريق المصالح الاميركية.. ومغرماً بقوتها المبهرة أكثر من سياستها. فهو ومن أولى خطواته في ملعب السياسة عاشق للقوة. هي مغناطيس يرسم اختياراته. يمكن ان نقول قفزاته من تطرف الى تطرف. من الحرس الحديدي الجهاز السري التابع للملك والمكلف باغتيال خصومه الى الثورة التي انقلبت على الملك، ومن الاخوان المسلمين وخلية سرية ألمانية الى معاهدة سلام مع اسرائيل ونجومية معتمدة على تكسير السور الذي بناه عبد الناصر مع الغرب.
كان مغرماً بالقوة. ويختار أقرب مساعديه من الضعفاء. مات وهو يجرّب البدلة العسكرية الجديدة. لم يكن الجديد فيها فقط هو لمسات بيت الأزياء الإنجليزي الذي اختار موديل الجيش الألماني. الجديد تماماً كانت عصا الماريشالية المصنوعة من الذهب.. وضعها السادات تحت إبطه.. وأمسكها بأطراف أصابعه.. قبل ان يرفعها من قبضة اليد اليمنى ويشد قامته ليبدو مثل فرعون يحمل مفتاح الحياة. هذه كانت صورته الأخيرة تقريباً. صورته التي أحب ان يرى نفسه عليها. فرعون يرتدي ملابس الجيش الذي يحمل ذكرى هتلر معشوق السادات ومثله الأعلى من أول يوم له في السياسة. قبل صورة الفرعون (هتلر) وزعت صحيفة «مايو» صورة جانبية (بروفيل) للسادات وزع فيها المصور الضوء ليبدو السادات كما لو كان مرسوماً على جدران معبد من معابد الفراعنة.
هذا حدث بعد أيام من هوجة اعتقالات خريف 1981، حين أصابت السادات إحدى موجات الغضب الهستيري وأصدر أوامر باعتقال 1500 من معارضيه والمختلفين معه. صحافة التطبيل أطلقت على موجة الاعتقالات اسماً يثير نشوة الرئيس: «ثورة 5 سبتمبر». وهي عقدة قديمة من عقد السادات: كان يريد ان يكون زعيماً لثورة. فالثورة في سياسة العصر الحديث مثل الدين الجديد في المجتمعات القديمة... وهو كان يريد ان يستعيد ما فقده بزعامة عبد الناصر لثورة يوليو... الحرمان جعله مهووساً بالبحث عن ثورة يتزعّمها... معركته مع خصومه في الحكم (مراكز القوى كما سمّتها الصحف الرسمية) سمّتها الصحافة: ثورة التصحيح... ولم ينته الولع بإطلاق التسمية الساحرة على كل قرار صار تحت قيادته عدداً لانهائياً من الثورات: «الثورة الادارية» ... «الثورة الخضراء» ... «ثورة الأمن الغذائي».
2 - مبارك مغرم بنوع آخر من التسميات أقرب الى اعلانات المصالح الحكومية: من الصحوة الكبرى.. الى الانطلاقة الثانية. كلها شعارات تعبّر عن استمرار المرحلة لا الانقلاب عليها. فكرة الاستمرار والطيران تحت الرادار هي الأسلوب السائد من ربع قرن. لا صدام مع أحد.. كما كان في عصر السادات أو حتى عبد الناصر. السيطرة من البداية. العقل السياسي انسحب تدريجاً لمصلحة عقل أمني. السياسة انتقلت الى الهامش. ولم تعد كاريزما الزعيم هي الملهمة لخيال مؤسسات الدعاية وصناعة صورة النظام والرئيس. اختفت فكرة معبود الجماهير ومثير أحلامها. وتسربت درجة درجة.. فكرة قائد القافلة الناجح في تفادي الصدمات، تسميها البروباجندا المحيطة: حكمة وعقلانية. لكنها أساساً علامة على اختفاء الأفكار اللامعة من ربع قرن... وحتى الآن. السادات كان آخر رئيس صانع للمعجزات.
3 - انتصرنا في أكتوبر 1973. فخرجت الحكايات الخرافية: كانت الملائكة تحارب معنا.. كما حاربت في غزوة بدر. السادت يؤكد على انه «الرئيس المؤمن» الذي أرسل الله ملائكته لكي تسانده في حربه ضد اسرائيل. كان يريد ان يصبح «رب العائلة المصرية». يحكم كأنه زعيم قبيلة لها طقوسها وربّها الذي يحميها. لا يناقشه أحد في قوانينها. ولا يحاسبه أحد. هكذا تولى الشيخ الشعراوي ترويج هذه المقولة (الخرافية) عندما كان وزيراً للأوقاف من على منبر مجلس الشعب.. وكان يريد توصيل رسالة للمعارضة التي كانت فعالة الى حد ما وقتها ان الرئيس لا يُسأل.. المعارضة التي كانت بين إسلاميين يريدون خلافة راشدة على طريقة الدولة الاسلامية منذ 15 قرن.. ويساريين يريدون دولة حديثة، دولة مؤسسات يحكمها القانون. هذا في شعاراتهم السياسية ولكن من ناحية الواقع كان بين صفوف اليسار من يريد تطبيق موديل آلهة الكرملين الخالدين أو يريد إعادة عبد الناصر الى الحياة. رد عليهم السادات بخرافة مفحمة. فهو صاحب كرامات، والملائكة حاربت معه، على رغم انه كان قبل 1973 ما زال بعيداً من الخرافة بفكره ويبني قوة عسكرية (أو يكمل البناء الذي بدأه عبد الناصر). لكنه بعد قراره دخول عصر جديد، أراد ان يصنع صورته الجديدة بدلاً من صورة الضابط الثوري. صورة الأب، زعيم القبيلة، الرئيس المؤمن، وركز طبعاً على مكياج الزبيبة والعباءة.
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* كاتب مصري