ألبير منصور *
أن تكون الديموقراطية اللبنانية ديموقراطية توافقية أو اصطلاحية فلا عيب ولا عجب لأن الديموقراطية بذاتها ليست سوى مجرد اصطلاح حكم. الديموقراطية نتاج سياسي ثقافي، لا جذور لها في الطبيعة سوى الأرضية التي أنبتتها أي العقل. وهي بالتالي اصطلاح بحث في المصلحة، والمصلحة كما نعلم مقصد عقلي.
الثابت الوحيد في اصطلاح الديموقراطية يكمن في معناها ومرماها أنها حكم الشعب وفي آلية ممارسة الحكم واختيار الحكام. وتحديد مفهوم الشعب ونوع الآلية يحددان شكل ونوع الديموقراطية وطريقة ممارستها وأعمالها.
هل الشعب هو مجموع الناس أي مجموع الأفراد الذين يتألف منهم مجتمع ما؟
أم الشعب هو مجموع المواطنين بما يعني مفهوم المواطنة من تمييز بين الفرد والمواطن. والمواطنة تفرض شروطاً على الفرد كي يرتقي الى درجتها. المواطن فرد بشروط قانونية معينة (سن، جنس، أهلية، إقامة، علم، مساهمة ضريبية الخ...) يهتم بالشأن العام وصاحب مقدرة وأهلية على تقدير النافع والضار بالنسبة له وقادر على إدارته. فالمواطن فرد يستوفي شروطاً قانونية معينة ويتحول باستيفائها الى شخصية معنوية حقوقية؟
وهل ممارسة الحكم مباشرة من الشعب أم عبر اختيار ممثلين؟
وقد أنتجت هذه التحديدات لمفهوم الشعب وتحديد الآلية أنواعاً متعددة من النظم الديموقراطية بدءاً بالديموقراطية المباشرة للمواطنين وصولاً الى الديموقراطية التمثيلية المتمثلة بحكم نخب مختارة من قبل المواطنين ومن ثم من قبل جميع الناس ومن ثم من قبل ممثلين موزعين وفق حصص محفوظة لفئات اجتماعية معينة (كالنساء والرجال) وفي لبنان وفق حصص محفوظة للطوائف الدينية والمذهبية. فالديموقراطية التوافقية أو الاصطلاحية اللبنانية لا تقل ديموقراطية عن سواها ولا تزيد إلا بقدر ما العقل السياسي اللبناني يدرك المصلحة الوطنية اللبنانية العامة من وراء اعتمادها ويعمل لتطبيقها، مستلهماً بصورة دائمة هذه المصلحة الوطنية العامة.
الاصطلاح الديموقراطي يتبع وينبع من المصلحة العامة ومن العقل المقدر لها، لذا أساسه التوافق وهو منفتح على التغيير والتحسين تبعاً لفهم المصلحة العامة ومستلزمات هذا الفهم على الصعيد السياسي. والديموقراطية اللبنانية التي رُسمت منذ الميثاق الوطني وتطورت مع اتفاق الطائف لم تخرج من من كتاب مدرسي، وإن كان واضعوها على معرفة وافية بمحتويات الديموقراطيات المدرسية وخاصة الغربية منها، التي أعطت لنفسها صفة الاستفراد بالمفهوم وتعميمه كنموذج أوحد، وإنما أتت نتيجة ترتيب مصلحي عقلي قائم على فهم معين لحاضر لبنان وخاصة إمكان قيامه واستمراره كوطن وتطلعه الى دور ورسالة ومستقبل في محيطه العربي أولاً والعالم ثانياً. فالديموقراطية اللبنانية هذه لا تقاس بالمقاييس «الكتبية المدرسية» لأن المقاييس هذه لا تطال ولا تفقه مضمونها ولا يمكن إعمالها في إطارها.
تتميز الديموقراطية اللبنانية بأنها توزع السلطة التشريعية بين المسلمين والمسيحيين مناصفة، وفي داخل كل نصف توزيع المقاعد بشكل شبه نسبي بين مختلف المذاهب داخل كل طائفة. وتتميز الديموقراطية اللبنانية بأنها تحصر رئاسة الجمهورية بالموارنة ورئاسة الوزراء بالسنة ورئاسة المجلس بالشيعة ونيابة رئاستي المجلس والحكومة بالروم الأرثوذكس وتوزع مجلس الوزراء مناصفة بين المسيحيين والمسلمين وتعطي نسباً معينة من الوزراء لكل طائفة ومذهب وتفرض تمثيل الطوائف في مجلس الوزراء بصورة عادلة، وتعتمد المناصفة أيضاً بين موظفي الفئة الأولى على امتداد مؤسسات الدولة وتراعي التوازن الطائفي في إطار كل مؤسسة... وأهم من ذلك كله أنها تضع قواعد عمل محددة لمجلس الوزراء الذي تحصر الحكم فيه وتحصر تأليفه بالتوافق بين مجلس النواب، عبر اختيار رئيس حكومة، ورئيس الجمهورية وأهم تلك الأصول التي سنستنتج منها قواعد الحكم في ظل اتفاق الطائف هي: حصر الحكم في مجلس الوزراء مجتمعاً وأولوية قاعدة التوافق في إصدار القرارات وعدم التصويت إلا في حال تعذر التوافق، وقاعدة نصاب الثلثين للانعقاد وقاعدة أكثرية الثلثين للأمور الأساسية في حال عدم التوافق، وأهم من ذلك كله قاعدة سقوط مجلس الوزراء باستقالة ثلث أعضائه.
إن مجرد سقوط مجلس الوزراء واعتباره مستقيلاً إذا ما استقال أكثر من ثلث أعضائه يغيّر قواعد الديموقراطيات المدرسية جميعها ويملي التبحر والتبصر لمعرفة القواعد الحقيقية التي تحكم أصول العمل السياسي والحكم في اتفاق الطائف.
كما ان مبدأ العيش المشترك، الذي إذا ما خولف أسقط شرعية العمل المخالف فوراً، يجعل خروج طائفة واحدة من مجلس الوزراء إسقاطاً لهذا المجلس لأن تركيبه يضحى مخالفاً لمبدأ العيش المشترك وبالتالي يسقط شرعيته وفق نص الدستور اللبناني، دستور الطائف.
هل من كتاب مدرسي واحد في العالم يعرف اصطلاحات كهذه؟ وإن لم يكن فلماذا هذا الإصرار على العودة الى الكتب والأصول المدرسية والتذرع بها في محاولة تطبيق الديموقراطية الاصطلاحية الخاصة بنا.
فما معنى الكلام إذاً عن أكثريات وأقليات وغالبيات والجميع يعلم أن لا علاقة لها بقواعد الحكم التي رسمها اتفاق الطائف؟
إن الحكم الذي بناه اتفاق الطائف هو حكم المشاركة حكم محطة سمّيت محطة المشاركة لأنها محطة مؤقتة على طريق إلغاء الطائفية السياسية، ومشاركة لأنها ألغت هيمنة طائفة أو هيمنة ثنائية طائفية على الحكم في لبنان وأحلت مكان الهيمنة الطائفية التي كانت تمارسها المارونية السياسية أو الثنائية الطائفية «المارونية ــ السنية» وأحلت محل هذه الهيمنة حكم مشاركة بين جميع الطوائف وبالتحديد بين جميع القوى السياسية الممثلة لتلك الطوائف وفق ما نص عليه دستور الطائف بوجوب تمثيل الطوائف في مجلس الوزراء تمثيلاً عادلاً، ومنعت حكم الثنائيات وأعطت رئيس الجمهورية صلاحية المشاركة الأساسية في تأليف مجلس الوزراء للسهر على تطبيق هذه القواعد والأصول وحفظها. وكل سيطرة في مجلس الوزراء لحزبية سياسية ما على أكثر من ثلثي أعضائه هي تعطيل لاتفاق الطائف ولإمكانية ممارسة الحكم وفق أصوله. فمن يسعى الى السيطرة على أكثر من الثلثين في مجلس الوزراء لصالح جهة واحدة إنما يرتكب مخالفة جوهرية لقواعد الطائف، والرئيس الذي يسمح بذلك إنما يتنازل عن صلاحياته ودوره. إن الحكومة الحالية، حكومة السنيورة، تشكل بتركيبها الأكثري مخالفة لجوهر الاتفاق. وأما تذرع أركانها بأصول الديموقراطيات المدرسية التي تولي السلطة للأكثرية، فذريعة لا معنى ولا محل لها في ظل الديموقراطية التوافقية الاصطلاحية التي بنينا في لبنان وفق اتفاق الطائف. بل هي نفاق سياسي يتستر بقاعدة «مدرسية ــ كتبية» لتبرير التفرد والهيمنة وإلغاء المشاركة التي فرضها دستور الطائف.
وقد يسأل سائل عن ماهية دور مجلس النواب ودور الأكثريات النيابية وما معنى القول بنظام برلماني...؟
جوابنا أنه في ظل حكم محطة المشاركة الدور هو للتوافق وللتوازن ولمنع الهيمنة وبالتالي فإن دور الأكثريات النيابية يقتصر على إعطاء أو على حجب الثقة المطلوبة قانوناً مع العلم المسبق أن الحكومات لا تؤلف على صورة المجلس النيابي وأكثرياته بل تؤلف على صورة إرساء المشاركة ومنع الهيمنة وفق نص الدستور الذي يفرض تمثيل الطوائف في مجلس الوزراء بصورة عادلة ويعتبر كل تدبير يخلّ بأصول تطبيق قواعد العيش المشترك ساقطاً حكماً لعدم شرعيته، وقاعدة تمثيل الطوائف في مجلس الوزراء بصورة عادلة هي من تلك القواعد.
وعندما ننتهي من محطة المشاركة ونلغي الطائفية السياسية عندها نرجع الى قواعد الغالبية والأقلية والأصول المدرسية للنظام البرلماني. أما اليوم فعلينا أن نختار إما أن تكون الحقوق المعتمدة واحدة للجميع فتطبق قواعد الديموقراطية المدرسية وفق قواعد الأقلية والأكثرية، وإما أننا سنبقي على التمييز في الحقوق بين المواطنين مفردين ومخصصين مراكز لطوائف دون أخرى وعندها علينا اعتماد قواعد التوافق والاصطلاح التي رسمناها في اتفاق الطائف. فمن غير المعقول ولا المقبول فرض احتكارات طائفية ومذهبية لمراكز السلطة (كمثل توزيع الرئاسات على بعض الطوائف، وتوزيع الوزراء والنواب على الطوائف والمذاهب) ومن ثم المطالبة بقواعد أعمال تفترض المساواة وبالتالي عدم وجود هذه الاحتكارات. وإلغاء الاحتكارات يأتي مع إلغاء الطائفية. وطالما هناك احتكارات وتخصيص طوائف ومذاهب بمراكز معينة في السلطة فلا إمكانية لإعمال قواعد الغالبيات المدرسية إلا في إطار ما رسم اتفاق الطائف لمحطة المشاركة الراهنة أي التصويت على الثقة كتعبير عن شكلية النظام وعن الرضا أو عدم الرضا «الشعبي» المفترض. من هنا يأتي الدور الكبير لرئيس الجمهورية أولاً ولرئيس الحكومة ثانياً في ظل اتفاق الطائف وهو ما لم يمارسه أي رئيس جمهورية ولا أي رئيس حكومة أو أي حكومة منذ الانقلاب على اتفاق الطائف في سنة 1992 إلى اليوم لا في تأليف مجالس الوزراء، التي تألفت جميعها مخالفة لأصول الحكم التي وضعها اتفاق الطائف، ولا في ممارسة الحكم الذي لم يكن يوماً ومنذ 1992 في مجلس الوزراء، ولا في إرساء قواعد المشاركة ومنع الهيمنة السياسية التي تفاقمت وانتقلت من ثنائية إلى أخرى أي من «المارونية ــ السنية» الى «السنية ــ الشيعية»، ولا في محاولة بناء الدولة.
فمن حيث تأليف مجلس الوزراء أوجب اتفاق الطائف أن تأتي الحكومات بعده حكومات سياسية تمثل القوى السياسية في جميع الطوائف اللبنانية الأساسية وهي سبع وأن تمثل هذه الطوائف بصورة عادلة (المارونية والسنية والشيعية والأرثوذكسية والكاثوليكية والدرزية والأرمنية) وامتنعت بعد الطائف حكومات التكنوقراط والاختصاصيين إلا إذا كان الاختصاصي شخصية سياسية لها حضورها السياسي الوطني أو حضورها السياسي التمثيلي في طائفتها.
أما تسمية تكنوقراط أو مثقفين أو اختصاصيين لا حضور سياسياً وطنياً لهم أو تمثيلياً في طوائفهم فاستمرار للممارسة السابقة للطائف وجوهرها ممارسة الهيمنة على الحكم لا المشاركة فيه.
كما امتنعت بعد الطائف ممارسة الحكم وفق الاتفاقات والتحالفات السياسية الطائفية الثنائية أم الثلاثية على حساب تمثيل الطوائف الأخرى، ووجب حضور جميع الطوائف بقواها السياسية الفعلية إما التمثيلية في طوائفها وإما بشخصياتها السياسية صاحبة الحضور الوطني العام الذي يتجاوز من حيث القدر السياسي التمثيل الطائفي.
ورعاية هذه القواعد هي واجب رئيس الجمهورية أولاً ومن ثم واجب رئيس الحكومة. الأول لأنه مؤتمن على تنفيذ وتطبيق الدستور بنصه وجوهره وروحه، والثاني لأنه في الديموقراطية اللبنانية ليس زعيم أكثرية نيابية بل هو لجميع اللبنانيين ورئيس مجلس وزراء اللبنانيين ووجب أن يكون كذلك تصرفاً وممارسة إن في تأليف الحكومة وإن في ممارستها الحكم عبر مجلس الوزراء.
وقاعدة هذا التوافق والمشاركة لم يضعها الطائف كانطلاقة للحكومة الأولى فقط وإنما وضعت كقاعدة عمل لكامل مرحلة ما سمّيناه «محطة ترسيخ المشاركة وإلغاء الهيمنة».
لم يمارس المتعاقبون على الحكم أياً من تلك القواعد بعد سنة 1992 وبعد الانقلاب الذي حققه تحالف ميليشيا المال وميليشيات السلاح برعاية وإشراف وإدارة الترويكا السورية التي كانت مؤلفة من الثلاثي (عبد الحليم خدام، حكمت الشهابي وغازي كنعان) ومكلفة بالملف اللبناني من قبل النظام السوري.
وسوء تأليف مجالس الوزراء هذا لم يتنبه له أي من رؤساء الجمهورية، لا الرئيس الهراوي، ولا الرئيس لحود، وتعمد إسقاطه منذ الحكومة الأولى الرئيس رفيق الحريري واستمر في ذلك في جميع الحكومات التي ترأسها.
وخير دليل على هذا المثال السيئ لتأليف الحكومات يأتينا من تركيب الحكومة الراهنة التي يترأسها السنيورة بصفته ممثلاً لرئيس الأكثرية النيابية. فحكومة السنيورة تتألف من ممثلين للطوائف ليسوا من شخصياتها ذات الحضور الوطني ولا من الشخصيات التي تمثل قوى سياسية في طوائفها: فالوزراء الموارنة لا حضور سياسياً وطنياً لهم في غالبيتهم كما ولا يمثلون القوى السياسية التمثيلية الغالبة في الطائفة المارونية التي يمارسون الحكم باسمها، وكذلك حال غالبية الوزراء الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن وبعض من الوزراء السنة. أي أن الطوائف المسيحية بغالبيتها المطلقة غير ممثلة في هذه الحكومة وفق منطق وقواعد اتفاق الطائف ونص الدستور. أما على صعيد ممارسة الحكم في وعبر مجلس الوزراء فلم تحصل أن مورس الحكم من خلال مجلس الوزراء ولو مرة واحدة منذ سنة 1992 الى اليوم، والسبب يعود الى ان القوى السياسية الفعلية كانت في غالبيتها خارج مجلس الوزراء ولأن الممارسة جعلت رؤساء المؤسسات يختصرون هذه المؤسسات بأشخاصهم فقام نظام سمّي حكم الترويكا، نسب الى اتفاق الطائف زوراً أو جهلاً، وأضحت في ظله ممارسة الحكم من خارج مجلس الوزراء وما تزال مستمرة حتى اليوم مع الحكومة الراهنة.
كانت مؤسسات الحكم الأمنية والسياسية في ظل التسلط السوري ومنذ الانقلاب على اتفاق الطائف في أيار 1992 بيد السوريين والمتعاونين معهم، وكانت مؤسسات الحكم الاقتصادية والمالية بيد رفيق الحريري، ومؤسسات الحكم الخدماتية موزعة بين جميع المتعاونين مع السوريين والمستفيدين من تسلهم، وكان بعض المتعاونين الأساسيين (كرئس الجمهورية والرئيس الحريري والرئيس بري والوزير جنبلاط والوزير فرنجية) على بعض المشاركة في الإدارة السياسية والأمنية التي كانت تراعي مصالحهم وتعززها. واليوم الوضع تقريباً على حاله مع تبدل الوصاية حيث الحكم الفعلي بمؤسساته الأمنية والسياسية أضحى بإشراف السفارات (الأميركية والفرنسية والسعودية) وفي عهدة سعد الحريري ووليد جنبلاط ومجموعتيهما كما كانت سابقاً بيد السوريين، وأما المؤسسات الإدارية المالية والاقتصادية فبقيت بيد الحريري وجنبلاط على بعض المشاركة في إدارة بعض المؤسسات الخدماتية من قبل جميع الآخرين الموجودين في مجلس الوزراء كل بقدر هزال حجمه.
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* وزير ونائب سابق - مفكر وكاتب