معن بشور *
هل يمكن الرقم الذي نشرته جامعة جون هوبكنز الاميركية الشهيرة عن ضحايا الحرب والاحتلال في العراق منذ آذار 2003، وهو 654965، والرقم الآخر الذي تجاوز مليوناً ونصف مليون عراقي وجلّهم من الأطفال الذين سقطوا ضحايا الحصار الجائر الذي استمر أكثر من 13 سنة، ان يمرا كخبرين عاديين في حياتنا، بل في حياة المجتمع الدولي بأسره.
سؤال يقضّ المضاجع فعلاً، وخصوصاً مع هذا الصمت المطبق، عراقياً وعربياً وعالمياً، إزاء هذا الكم الهائل من الضحايا الذي يعرف كل العراقيين انه يتزايد كل يوم، بوتيرة تتسارع كل ساعة، وحيث المعلن منه أكثر من غير المعلن، الى حد ان بعض العراقيين بات يكتب على يده بالوشم، اسمه وعنوانه ورقم هاتفه، حتى لا يتوه أهله اذا تحول الى «جثة» هائمة بين المستشفيات.
فما عدا نفياًَ خجولاً صدر عن المتحدث باسم «حكومة العملية السياسية»، سرعان ما كذّبته الوقائع الميدانية العراقية في اليوم عينه حيث أعلن سقوط أكثر من 50 شهيداً عراقياً جديداً في عمليات التفجير والقتل الجماعي والخطف والتمثيل بالجثث، لم نسمع موقفاً من هذا الرقم أو استنكاراً او إدانة في هذا العالم.
وهذه العمليات الارهابية، بات العراقيون يدركون انها تحمل بصمات السفير نيغروبونتي التي عرفها العالم في غير دولة، والتي شهدها العراق بعد حضور «مهندس الحروب الأهلية» الأشهر سفيراً لأميركا خلفاً لبريمر وممهداً لزلماي خليل زادة، قبل ان يعود الى واشنطن رئيساً لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية.
فهل يكمن وراء هذا الصمت العربي والاسلامي والعالمي الرهيب عن هذه الجرائم التي أودت بحياة أكثر من مليوني عراقي (أي واحد من أصل عشرة عراقيين) شعور جماعي بالذنب لدى دول وحكومات، جماعات وجمعيات، أحزاب وحركات، منابر وأقلام، مشاهير وأفراد، شاركوا جميعاً، في شكل أو آخر، بالتواطؤ العلني أو السري، في الترويج أو التبرير، بقلب الحقائق أو تزويرها، لارتكاب هذه الجرائم الجماعية الكبرى ضد الانسانية؟
وهل ينجم سكوت المجتمع الدولي الذي ينشغل «مجلس أمنه» بإصدار القرار «العقابي» تلو القرار ضد دول وشعوب، (كل ذنبها أنها لم ترضخ لإملاءات واشنطن، ولم تذعن لمتطلبات مشروعها الامبراطوري المتحالف مع مشروع تل أبيب العنصري)، من إحساس بالعجز تجاه «الطاغوت» الاميركي المهيمن على مؤسسات هذا المجتمع الدولي، أم من سقوط نهائي لمجلس الأمن هذا بيد السفير «بولتون» الذي طالما احتقر الأمم المتحدة والذي اعتبرته تل أبيب عضواً سرياً في بعثتها الديبلوماسية في نيويورك، مقر المنظمة الدولية.
فمجلس الأمن عينه، وإن رفض إعطاء الضوء الأخضر لشن الحرب على العراق، لكنه عاد بسرعة الى «شرعنة» كل نتائجها ومفاعيلها في قرارات متتالية اعتبرت ان مجرد استبدال اسم «قوات الاحتلال» باسم «القوات المتعددة الجنسية» قد أوجد حلاً لحرب ظالمة، ولاحتلال قاتم، وقد قال أنان نفسه (الأمين العام السابق للأمم المتحدة) إنها لم تكن «شرعية أو قانونية»، فكوفئ كوفي بفتح ملف ابنه في برنامج النفط مقابل الغذاء، وبدأ التحضير لعزله تماماً كما جرى لبطرس غالي إثر التقرير الشهير عن مسؤولية الصهاينة في مجزرة قانا قبل عشر سنوات حين لم ينجح مقر قوات الامم المتحدة (اليونيفيل) في حماية المئات من العائلات اللبنانية، وجلّهم من الأطفال والنساء، وقد لجأت إليه من نار القصف الصهيوني المجنون.
ثم هل بدا سكوت النظام الرسمي، العربي والاسلامي، عن هذه الجريمة المروعة والمتمادية في حق أبناء العراق، الذي لم يتخلّ يوماً عن التزاماته تجاه أشقائه وأصدقائه، تعبيراً عن خوف وجزع من «العقاب» الاميركي المتجوّل في العالم ومن تحكّم واشنطن بمصير أنظمتنا وحكامنا، أم عن إحساس مغمّس بالعار والخجل إزاء الدور الذي أدّاه هذا النظام، بأغلب دوله، في التحريض على الحرب والتحضير السياسي والاعلامي واللوجستي لها، وفتح القواعد والممرات البرية والجوية والبحرية أمام الأساطيل والجيوش، والتعامل السريع والمخزي مع آثار الاحتلال وتداعياته، وهو تعامل استخدم ذريعةً لكي تنفتح الطريق واسعة أمام دول العالم ومنظماته الدولية لكي تتعامل مع الواقع الجديد الذي أفرزه الاحتلال، وهو بالمناسبة تعامل مناقض لأبسط مبادئ القانون الدولي، والاتفاقات الدولية، التي تعتبر باطلاً كل ما ينشأ عن الاحتلال وبسببه من مؤسسات وتشريعات وأجهزة.
ومن جهة ثالثة، فهل ينبع سكوت بعض الاحزاب والحركات والاصوات والمنابر والاقلام (إلا الشرفاء والاحرار بينهم) من هذه الجرائم المروعة التي أودت بـ 1/10 من أبناء العراق، ومن شعورها المضطرب بالمسؤولية، لأنها بررت في شكل أو آخر، وقدمت ذريعة أو أخرى لهذه الحرب، فاعتبرتها مدخلاً «لتغيير ديموقراطي شامل في المنطقة»، واعتبرت، تارة أخرى، السكوت عنها «تكيّفاً ضرورياً مع التحولات الكبرى في العالم» أو «احتراماً ذكياً للتغيير في موازين القوى»، أو لأنها شاركت، معنوياً على الأقل، في واحدة من أخطر عمليات الابادة الجماعية في عصرنا الحديث، وهي عملية لم تؤد الى قتل مئات الآلاف من الناس فحسب، بل استهدفت، كما كان واضحاً منذ اليوم الاول، العراق كياناً وطنياً، ودولة عريقة، ومجتمعاً موحداً، وموارد ضخمة، وتراثاً حضارياً ممتداً الى آلاف السنين، وبنية علمية وثقافية اعتز وفاخر بها العرب، لا بل ان من بين هذه الأصوات من حاول التصدي للحركة العربية والعالمية الضخمة المناهضة للحرب على العراق برفع شعار ملتبس «لا للاحتلال ولا للديكتاتورية»، فاذا بها بعد سقوط النظام تصمت عن هذا الاحتلال وجرائمه، بل تحاول تجميله «كإنجاز ديموقراطي»، وتمجيده كعملية «تحرير» لا بد منها.
وكلنا يذكر من دون شك كيف انطلقت حملة تشهير ضخمة دخلت كل بيت، وانتشرت في كل ناحية، ضد كل صوت عربي او عالمي حذّر من مخاطر هذه الحرب، ومن نتائجها على العراق والمنطقة والعالم، ورفض منطقها، فكالت له كل أنواع الاتهامات، ولفّقت في حقه كل أنواع التلفيقات، وتطاولت على مراجع ومقامات، ولم يسلم من لسانها حتى القادة الذين عرفوا بنواياهم الخيّرة، ومقاصدهم الشريفة، وحكمتهم السديدة، ورؤيتهم الثاقبة، ونظرتهم البعيدة، كسماحة أمين عام حزب الله نفسه السيد حسن نصر الله الذي دعا عشية الحرب الى «طائف عراقي ــ عراقي» ينجز مصالحة وطنية عراقية شاملة، ويؤسس لواقع ديموقراطي تعددي في العراق، ويحول دون وقوع العدوان، ودون تورط بعض العراقيين في الدخول الى بلدهم على متن دبابات المحتل.
ومن الاسئلة التي تضج اليوم بيننا، هل يعود سكوت العديد من هيئات حقوق الانسان والمجتمع المدني المحلية والعربية والدولية عن هذه الجرائم الفظيعة، ما عدا هيئات كالمنظمة العربية لحقوق الانسان واللجنة العربية لحقوق الانسان بالاضافة الى منظمات دولية ومحلية دخلت متأخرة على خط الادانة والاستنكار، الى نظام التمويل الغربي المحكم الذي أوقع العديد من هذه الهيئات وحتى بعض الاحزاب، في شباكه، أم يعود الى ان «أجندات» بعض هذه الهيئات لها أولويات مختلفة حيث «قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر .. وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر».
واذا كان منطق العدالة الانسانية البسيط، واذا كانت نصوص القانون الدولي، والقانون الدولي الانساني، والمعاهدات والاتفاقات ذات الصلة الشديدة الوضوح، تدعو الى محاكمة جنائية دولية لكل مسؤول سياسي او عسكري عن جرائم الابادة الجماعية هذه، والمستمرة منذ عام 1990، بل عن احتلال العراق وتمزيق أوصاله، فإن الحد الادنى من الموضوعية والاعتراف بالخطأ والانصاف، يتطلب في المقابل من كل مشارك او متواطئ او مبرر او صامت عن هذه الجرائم النابعة بالاساس من الجريمة الاصلية التي هي الاحتلال، القيام بعملية نقد ذاتي فردية وجماعية، والاعتذار بالكلمة او بالموقف او بالعمل، لشعب العراق الأبي عن مشاركته في هذه الجرائم.
فالساكت عن الحق شيطان أخرس، ولن تخرج هذه الشياطين من كوامننا إلا بكلمة حق وباعتذار صريح لشعب العراق.
ان هذا الاعتذار المقرون بنوع من المراجعة النقدية الجريئة ليس مجرد استجابة لمبدأ أخلاقي بسيط، بل هو في الأساس دعوة لاستخلاص درس بليغ من كل ما جرى للعراق وفيه، استخلاص يتكافأ مع حجم التضحيات التي بذلت، ويدعو الى الاستفادة من دروس المحنة العراقية من اجل مواجهة أفضل لمغامرات تلوح في الأفق ضد دول عربية أو اسلامية نراها اليوم مدرجة على لائحة الاستهداف الاميركي.
وإن هذا الاعتذار المطلوب، والاستخلاص المرغوب، يشكلان مدخلاً سليماً لاخراج الاحتلال من العراق في الغد بعدما فشلنا في منعه بالأمس، ولإزالة آثاره بعدما سقط بعضنا في التعامل معها، وذلك عبر الولوج في عملية مصالحة تاريخية حقيقية داخل العراق، لا تنحصر بالطوائف والمذاهب والأعراق على أهمية دورها، بل تشمل أيضاً القوى السياسية العراقية كافة، وخصوصاً صاحبة الجذور العميقة في المجتمع العراقي الذي طالما عبّر عن نفسه بأحزاب عابرة للطوائف والمذاهب وحتى الأعراق، كحزب البعث، والحزب الشيوعي، والتيار القومي العربي والشخصيات الوطنية الكردية المناهضة للاحتلال.
فالطائف العراقي ــ العراقي الذي اقترحه سماحة السيد حسن نصر الله في أواخر شباط 2003 (وخصوصاً في ظل المكانة التي بات يحتلها اليوم السيد نصر الله عراقياً وعربياً واسلامياً ودولياً)، ما زال صالحاً مدخلاً لهذه المصالحة العراقية التي تضم ممثلين عن كل مكونات المجتمع العراقي السياسية والاجتماعية والطائفية، وهي المدعوة بدورها الى التعالي فوق كل الجراح والحساسيات والرواسب القديمة، وطي صفحات الصراع المؤلمة والدامية التي شهدها العراق، ذلك ان العراق يستحق من كل قواه وأبنائه تعالياً بهذا المستوى، تماماً كما تستحق منا المحنة العراقية ان نتعلم منها انه في أية مواجهات مقبلة لا بد من إدراك خطأ المراهنة على العدوان الخارجي في حل مشاكلنا الداخلية، فكلفة هذه المشاكل والمواجع المرتبطة بها تبقى، على رغم كل شيء، أقل بكثير، وعلى كل المستويات، من تلك الأكلاف الضخمة الناجمة من الاستقواء بالعدوان الأجنبي على الشرفاء في الوطن.
* المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية