فداء عيتاني
كانت لدينا أحلام كبيرة، وكنا نعتقد أننا لا نني نتابع تحقيق المشروع الوطني الديموقراطي في إطار ثوري، لم تخفت الأحلام ولكن أفقنا على حطام وطن، وبعد حروب طويلة وبعد سنوات من قمع مموّه وسلطات مالية وعسكرية وأمنية لا ترحم، نعود لنتلمّس ان الصمت قاتل والتاريخ ظالم ولا يلقي بالاً الى روايات المهزومين أو حكايات أنصاف النصر.
لم يحمل وجهاً بشعاً، مراهقاً على وسامة خلقية، ونقاء وحتى طهرانية أخلاقية، حين جلس بين عبد الله الأمين من حزب البعث حينها، والياس عطالله من الحزب الشيوعي حينها أيضاً ليعقد مؤتمراً صحافياً بعد محاولته اغتيال الجنرال ميشال عون، كانت آثار التعذيب قد ذهبت بتفاصيل وجهه. وكان صدره محروقاً وعظام ضلوعه قد تكسرت، ومعدته أصيبت بالقرحة بعدما ابتلع ليترات من دمائه نفسها، وجلس بين الرجلين، وقدّم نفسه بصفته من عناصر المقاومة في الحزب الشيوعي اللبناني، وتكفّل الرجلان حينها بشرح هدف محاولة فرنسوا حلال اغتيال ميشال عون، «تجنيب المناطق الشرقية حماماً من الدم».
الامين العام الاسبق للحزب الشيوعي جورج حاوي رفض مراراً وتكراراً نسبة فرنسوا الى الحزب الشيوعي، وكان يؤكد ان الحزب لم يرسله، فرنسوا لم يلتحق بأحزاب أخرى لا قبل ولا بعد العملية، ولأشهر عومل باحتياطات أمنية عالية خوفاً على حياته، نقل من مكان الى مكان تحت اشراف الجهاز العسكري للحزب الشيوعي حينها قبل ان يُرحّل الى الدولة الاجنبية التي يحمل جنسيتها أيضاًً.
يذكر الشيوعيون السابقون ولا شك، ملصقاً طُبعت عليه صورة فرانسوا وعُلّق امام بعض المراكز الحزبية، وأسفله ذُيّلت عبارة «بطل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» التي كانت تقاتل اسرائيل حينها. ويذكر قدامى الحزب من جيل الحرب ان فرانسوا بدأ حياته المراهقة بالتدرّب على السلاح في معسكرات الحزب الشيوعي، والاستماع الى المحاضرات السياسية والفكرية التي كانت تزيّن أحلام المراهقين ببناء وطن سعيد وشعب حر وعدالة اجتماعية تطال المواطنين، وحريات عامة لا يمكن التنازل عنها، وتفكيك الطائفية بصفتها نظام حكم يثير حروباً أهلية تعقبها حروب ونزاعات لا تنتهي. ويقرأ فرنسوا المراهق حينها عن النظام الطائفي الأزماتي، بحسب تعبير مهدي عامل، الذي يعيد انتاج أزماته، ويحلم فرنسوا بوطن يبنيه كما فعل غيفارا في كوبا، وبمراهقة تطغى عليها أعمال بطولية من مشاركة في عمليات ضد الاحتلال الى العمل السري في أكثر من بقعة من لبنان. تلقى فرنسوا في يوم ما رسالة للالتحاق بمجموعة في المناطق التي تقع تحت سيطرة الجنرال عون.
لم تمر عملية إطلاق النار على ميشال عون داخل الحزب الشيوعي حينها مرور الكرام، إذ كان العديد من الكوادر الوسطية يسأل متبرّماً وضمن الأطر الحزبية التي غادرها هذا الكادر لاحقاً، عن معنى اطلاق النار على ميشال عون قبل يوم من العملية السورية عليه. لم تمر محاولة الاغتيال بنجاح، إلا ان فرنسوا كان في مكان آخر حينها. اعتقله بضعة أيام الجيش السوري الذي أخرجه من وزارة الدفاع، ثم عُقد مؤتمر صحافي مشترك بين الحزب الشيوعي والبعث وسُلّم فرنسوا الى حزبه، ولكن الحزب نفسه لم يكن على ما يرام، وهو ليس نفسه الذي كلّف الشاب المراهق بإطلاق النار على الجنرال.
كان مطلوباً شجاعة فائقة من شاب مثل فرنسوا ليمتثل لقرار حزبه، ويقف وسط حشد كبير من محبّي عون، وينتظر بصبر طويل لحظة يقول فيها عون «يا شعب لبنان العظيم» ويرفع مسدسه الذي هرّبه الى داخل باحة قصر بعبدا داخل مشدّ ملتصق بجسمه، ويطلق على الجنرال المحاط بحرسه ومحبّيه، ويتلقّى بضع ضربات من المحيطين به ليحولوا دون إصابته جنرالهم، ويخضع لتحقيق طويل وقاس جداً، ولا يصدقه المحقق بأن من أرسله هو «الحزب الشيوعي اللبناني» ويتحمّل فرنسوا كل شيء، حرفياً كل شيء ولا يعترف بأية معلومات، لا أسماء ولا أرقام ولا مواقع، ويرشد محققيه الى مواقع قديمة.
كان المطلوب من هذا الشاب شجاعة هائلة، ليحقق نفسه بطلاً لأحلام كبيرة، وكان يلزم ان يكون خلفه قياديون كبار، ولكن اليوم تلزم شجاعة كبيرة مماثلة لنقول إننا نحتفظ في ذاكرتنا بالوجه الجميل لفرنسوا، وبضحكته المجلجلة، وعناده الرائع، وأحلامه الكبيرة، وبالقدر نفسه من الشجاعة نقول اننا لا نرى اليوم ميشال عون خارج أحلامنا الكبيرة، في وطن يحترم أبطاله، وربما تطلّب الأمر منا شجاعة مضاعفة لنعترف لشباب التيار الوطني وكوادره بأن فرنسوا يمثّل كل ما أمكننا فعله في سبيل وطننا، واليوم أنتم تمثلون جزءاً لا بأس به من رهاناتنا والجزء الآخر ينتظر في الجنوب المزيد من الشبان أشباه فرنسوا الذين يعرفون كيف يحمون وطنهم.