خالد صاغيّة
أعاد منحُ جائزة نوبل للسلام للبنغالي محمّد يونس مسألة القروض الصغيرة إلى الواجهة. ويأتي تكريم يونس اليوم، وعلى عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى، تكريماً للأدبيّات الاقتصاديّة السائدة وللنظام العالميّ الذي افتتحتْه السياسات النيوليبرالية نهاية السبعينيّات. فالواقع أنّه كلّما تفاقم تعثّر التنمية في بلدان العالم الثالث، وكلّما برز فشل السياسات السائدة في تحقيق وعودها، ارتفعت المدائح لبرامج القروض الصغيرة.
فمنذ أن رُفع السوق إلى مصافٍ خلاصيّ، ونُبذ دور الدولة في الاقتصاد، بدأ المستوى المعيشيّ لسكان الكوكب بالتدنّي، ولا سيّما في العالم الثالث. لكن بقي الشعار الذي رُفع في عهد مارغريت تاتشر مهيمناً: «لا بديل». وإزاء التخبّط الحاصل في أدبيات التنمية، وارتفاع حدّة الفقر، تبرز «القروض الصغيرة» كمخرج يستطيع من خلاله أنصار السوق الدفاع عن إيديولوجيّتهم. ففلسفة القروض الصغيرة لا ترى للدولة أيّ دور. القطاع الخاص هو الذي يقرض، والمقترضون يستخدمون القرض في مشاريع «بيزنس» صغيرة تنتج سلعاً تُعرض للبيع في الأسواق.
لكنّ إيديولوجيا «القروض الصغيرة» تذهب أبعد من تحييد الدولة، إذ تستبطن فكرة تحويل المواطن إلى مستثمر كشرط للبقاء على قيد الحياة. فالتحوّل إلى «أنْتربرونور» صغير هو المدخل لإخراج الفقراء من فقرهم. ويعني ذلك في ما يعنيه أنّ القروض الصغيرة تدخلك في الوهم القائل إنّ النظام يقدّم لك فرصة، وكلّ ما عليك أن تقوم به هو المبادرة. خُذْ قرضاً، واقبر الفقر.
لم يكن لمسألة القروض الصغيرة أن تتّخذ هذا الحيّز من النقاش، لولا أنّ مروّجيها يصرّون على تقديمها لكونها الحلّ لمشاكل الفقر في العالم. ويونس نفسه لم يتحلَّ بكثير من التواضع لدى تسلّمه جائزة نوبل، إذ أعلن: «إنكم تدعمون حلماً بصياغة عالم خالٍ من الفقر».
ليس القصد الإنكار أنّ قروض مصرف «غرامين» الذي يملكه يونس قد ساهمت في تحسين الوضع المعيشي لقسم من البنغاليين. لكنّ المؤكّد أنّ قروضاً كهذه ليست هي الحلّ لمسألة الفقر. وإذا ما دقّقنا في تجربة يونس بالذات، وجدنا أنّ أحد شروط الحصول على قرض من مصرف «غرامين» هي أن يملك المقترض منزله! لا يخفى أنّ شرطاً كهذا يحفظ حقوق المصرف أكثر ممّا يحفظ «نيّة» المصرف في استهداف فقراء بنغلادش. أضف إلى ذلك أنّ 55% من الأسر التي نالت قروضاً من «غرامين» ما زالت، وفقاً لإحدى الدراسات، عاجزة عن تأمين حاجاتها الأساسية من الغذاء.
لا تقف ادّعاءات «القروض الصغيرة» عند الفقر وحسب، بل تطال موضوعاً بات اليوم محبّباً في أدبيات التنمية، وهو «تمكين المرأة» في المجتمعات النامية. فقروض «غرامين» مثلاً تذهب إلى النساء حصراً. لكن الدراسات تشير أيضاً إلى أنّ ربع هؤلاء النساء تقريباً لا علم لهن على الإطلاق بما يفعله أزواجهنّ بالقروض التي أُخذت باسمهنّ.
يتجاوز موضوع القروض الصغيرة الجانب الاقتصادي المحض، ليطال أنماط العيش أيضاً. فتنشط المنظمات غير الحكومية بين نساء القرى في لبنان وفي مصر وفي العالم الثالث كلّه، لإقناعهنّ بالاقتراض والبدء في مشروع إنتاجيّ صغير داخل القرية. فعلى ما يبدو، إنّ تمضية الوقت في الزراعة لإطعام العائلة لا تتلاءم ومواصفات «التمكين الجندري». فكي تؤدي المرأة دوراً فاعلاً في المجتمع، عليها أن تكفّ عن الزراعة وأن تأخذ قرضاً وتفتح فرن مناقيش مثلاً. ونظراً لضيق حجم السوق، تنتهي هؤلاء النسوة عاجزات عن تسديد الدين وفوائده، وينخفض المستوى المعيشي لعائلاتهنّ التي لن تستطيع بعد اليوم أن تحظى بالتغذية نفسها التي كانت تؤمّنها الزراعة المنزلية.
أمّا النساء الأكثر فقراً، فلا يتكبّدن عناء المناقيش. يقترضن ويستخدمن القرض لشراء سلع أساسية تطيل بقاءهنّ على قيد الحياة بضعة أشهر!