بَسكال لحود *
تطــــــــــمين عاجــــــــل: لسنا في معرض استعادة جدل بــــــيــــــــــزنطي العـــــــــــــــقــــــــم فرّيسي الخبث في عـــــــلاقــــــــــــة الدين بالدولة في لبنان، ولا نحن بصدد المطــــــــالبة بإلغـــــــــــاء الطائفية السياسية خــــوفاً على دمنا من أن يهدر كرمى للحية أو عِمَّة (يجوز لواحدتهما أن تذبح تبريراً وتكفيراً، ولا يجوز لنا أن نجادلها «بالتي هي أحسن»).
الموضوع، كل الموضوع، أن نفهم مبادئ اللاهوت السياسي الذي يستند إليه حريصون على المسيحية والمسيحيين، يختلفون في كل شيء إلا في نعي «وحدة المسيحيين» في لبنان، والدعوة إلى تحقيقها، بحرارة أكاد أقول رسولية.
تـــــــــــغيب في خطابهم كل المعايير، وتتساوى كـــــــــــــل الخيارات، فأي زلة لسان في اتجاه النعم أو الــــــــــلا قد تعتبر انحيازاً لا يليق بمُدَّعي الحياد والتسامي، أما ما خلا النعم واللا ـ وإن كان من الشرير ـ فهو مُعَمَّم بهيبة الوطنية المتعالية على الصغائر... وقد ضاق أخيراً هامش المناورة في علالي الوطنية البريئة من الدنس تلك حتى اقتصر على عنوان «وحدة المسيحيين»، بعدما كان يتعداها إلى الثوابت الوطنية والمصلحة العليا وغيرها من أمور مرتا الكثيرة.
المـــــــــسألة إذاً أن نفهم محورية قيمة الوحدة، وسبب تصدُّرها واجهة الفكر السياسي المسيحي، أو المسيحوفوني (الناطق بالمـــــــــسيحية ومصالحها...). الوحدة كقيمة أقــــــــــــول، إذ إن خـــــــروقات اللاهوت لسيادة السياسة غالباً ما تضبط على معابر الأخلاقيات والقيم. حتى إن أشد فلاسفة السياسة حساسية تجاه الدين ورجاله آثروا الإبقاء على التديّن كقاعدة قيمية تربّي لدى المواطن سلوكيات ضرورية للاجتماع السياسي. ومن لم يتحدث عن الدين صراحة، ارتجل، كروسّو، ديناً مدنياً يتألف من مسلمات فلسفية ــ أخلاقية ضرورية لقيام الدولة، أو أثنى على دور الرابط الديني في مقاومة آفات الفردانية التي تنتجها الديموقراطية كما فعل توكفيل، بالتوازي مع علمنته الجذرية للسياسي.
فلنتوقف هنا لئلا ننزلق إلى عرض عضلات ـ أو عرض عورات ـ فكري، ولنعد إلى مسألة «وحدة المسيحيين».
الـــــــــــفريد في مسألة «وحدة المسيحيين» أنها لا تـــــــــــتصدى لأي من المشكلات الأخلاقية الواقــــــــــــعة على «مصلَّبية» الحق والقوة، ولا على الصدع الزلزالي الذي لم ينجح أحد في ترسيمه حتى الآن بين طاعة الله واحترام القوانين، ولا هي تلبّست مشكلة تراثية في لبنان تعنى بعلاقة ما لقيصر بما لله في مسيحية كُتب لها أن تجاور تحالفاً بين العبادات والمعاملات لا فكاك منه. بمعنى آخر، إن هذا التفشي السريع لمقولة دينية (سوف نبقي على هذا الوصف حتى إشعار آخر) في سياق سياسي لا يرتبط بالحبل السُرّي الذي يشد عادة السياسة إلى رحم اللاهوت، عَنيْت الركيزة الأخلاقية.
المسألة هي «وحدة المسيحيين». والوحدة في عرف البعض فريضة إنجيلية، ألم يدعُنا السيد إلى أن نكون واحداً كما هو والأب واحد؟ أولم تتمرَّ الكنيسة على قميص السيد غير المخيط الذي ألزم الجنود بالاقتراع عليه بدل قسمته...؟
لا شك في أن وحدة المسيحيين هي تعويض استلحاقي لكنيسة وعت بعد تاريخ قاييني من الإصلاحات والحرمانات والانشقاقات أنها كفَّرت بلغة متأتئة (من تأتأ) في قول المتعالي على القول، فظلمته وظلمت نفسها، وأنها إذ عصمت (من عصمة) عن الخطيئة عصمته أيضاً، ولقرون طويلة، عن فضيلة العودة عن الخطأ، وحزَّزت، بسياستها تلك، في جسد المسيح السري جراحات جديدة لم تخطر ببال صالبيه.
لا ضير في أن تستلحق الكنيسة ـ بل الكنائس ـ نفسها إذاً وتسعى إلى ضم الأغصان إلى الكرمة، ولو كلّفها ذلك بعض التنازلات على صعيد الحقائق الماورائية: فإن التسامح الذي يسم المنطق المسكوني يشقّ أبواب العقيدة لنفحة من اللاأدرية ـ أو قل التواضع المعرفي ـ هي سمة «بسطاء القلوب». فوحدة جسد المسيح هنا أهم من الخصوصيات العقيدية. أما على صعيد الأخلاقيات، فإن السعي إلى وحدة المسيحيين لا يؤدي إلى أي نسبوية أو تسويات. لأن المساومة ههنا تقصم ظهر الإيمان. قد يختلف المسيحيون على انبثاق الروح القدس (من الأب بحسب اللاهوت الأرثوذكسي ومن الأب والابن بحسب اللاهوت الكاثوليكي) لكن لا مسيحية خارج المحبة الفادية، والحق الذي يحرر...
عليه إذا كان من وحدة «سياسية»، غير سرّانية، ينبغي أن يحرص عليها المسيحيون فهي لا شك التزام شرس لأخلاقيات العمل السياسي، أخلاقيات لا تؤمن بأن إطلاق برأبّا سيجعل منه مسيحاً، أخلاقيات تستجرئ أن تصفع بنطيي الوطن بهيبة الـ«أنت قلت»، وأن تقيم وحدها خارج وكر اللصوص ريثما تعيده هيكلاً.
فهل مسيحيو لبنان قادرون على ارتكاب هذا المستوى من الصرامة الأخلاقية (التي بها وحدها يليق نعت «مسيحية» في الحيّز السياسي) في ممارستهم السياسة؟ أم يرتاحون أكثر إلى انهزامية «ما كتب قد كتب» وانتهازية «الإيد اللي ما فيك تعضّها بوسها» وغيرها من المواقف الفاترة التي تليق بها كلمات السيد إلى ملاك لاودكية؟
وتأتيني الإجابة من الدلالة السياقية لعبارة «وحدة المسيحيين» التي توحي، على لسان المبشّرين بها، ضرورة أن يتفق المسيحيون على أي شيء شرط أن يتفقوا، وكأن الإجماع أهم من موضوع الإجماع، وكأن مسيحية المتفقين أهم من مسيحية ما عليه يتفقون.
هذا النوع من الإجماع شبيه باللُحمة التي يظهرها المجتمع المغلق (بالمعنى البرغسوني) والتي عصبها العداء للآخرين. ومفادها، في وضعنا: أيها المسيحيون أظهروا حدّاً أدنى من التجاذب يمنعكم من أن تذوبوا في الآخرين ويبقيكم على مسافة منهم، لأن هويتكم وإنّيّتكم ـ التي زمّت وكشّت لكثرة ما غسلت بماء التسويات المغلي ـ باتت أصغر من أن تتسع لأي تحديد إيجابي. أنتم ما ليسوا. فقط. فظلوا ترددون كلمات مسيحيين، وموقف مسيحي، ووحدة المسيحيين لعل تكرار التعويذة ينجح في إبقائكم على قيد الوجود.
قد يجيبني مجيب: نحن نرى إلى الوحدة سبيلاً إلى وقف التوتر المتراكم في النفوس والمنفجر بين الحين والآخر صدامات طلابية أو تناحرات في المناطق...
وسأجيبه، إذا ما فعل: ليست هذه المشكلة مسيحية إلا عرضاً. هي في الجوهر انحطاط في ثقافة التعدد وقصور عن احترام الحق في الاختلاف، وأنت تحاول حلّها بأن تهرس الاختلاف تحت محدلة الوحدة!
إذا كان الله أعطاني الحق في الردة، وأفرد لي زماناً للَحس مبرد الخطيئة والتمتع بخرّوبها مع الخنازير، إذا كان أوسع البراري بما يسمح لخروف محب للإنشاد المنفرد أن يضيع ويمتحن مكانته عند سيده... أفيجوز أن يضيق بي صدر الخراف الآخرين...؟ إذا كان السيد قد قبل أن يأتيه علماء المجوس ورعيان اليهود على تناقض خلفياتهم، ورضي أن يكون إله نيقوديموس والمجدلية في الوقت عينه، ويفهم مسيحانية متّى وفيضية يوحنا، وإشراقية أغوسطينوس وأرسطية توما... أفهل يجوز لأي من أتباعه أن يضيِّق على أفكاري باسمه؟
هو الذي يجيبني عندما أناديه أباً، وقد أجاب قبلي يهوداً اخترعوا له اسماً عصياً على اللفظ، ومن بعدي مسلمين ينادونه بتسعة وتسعين اسماً... كيف يجوز أن أُلزَمَ، باسمه، بأن أخلع اختلافي لأدخل ملكوت العيش ـ معاً؟
ليست أزمة التربية على احترام الاختلاف خصوصية مسيحية.
ولكن إن أردت خريطة طريق إلى حلها، وأبيت إلا أن تبدأ من عتبة الدين، فابدأ بطرد الحق المطلق من الحيّز السياسي، وبتأطير الخير المطلق في حيز القانون. أما ما كان من الخير، بالمفهوم الديني، متخطّياً لسقف الخير الزمني فزيادة في الخير لا تلزم إلا من أرادها، ولا تتخطى حدود قوامته على نفسه.
يبقى احتمال أن يكون شعار وحدة المسيحيين إسقاطاً ـ أو تصعيداً ـ لغريزة البقاء الاجتماعية، وهي غريزة طبيعية ومشروعة حتماً، ولكن ما الذي يشرعن تقنّعها بالدين؟ وما الذي يحلل للدين أن يسخّر نفسه لنزوات الغريزة أياً تكن؟
خلاصة: ليست وحدة المجتمع المسيحي حول أمور السياسة فريضة مسيحية. ولا مسوّغ سياسياً لإيثار تكتّل المسيحيين على تكتل مسيحيين مع غيرهم.
فما لم يكن من سياسة مسيحية خارج إطار الأخلاق الثورية، غير الامتثالية، المنحازة للإنسان والحق التي رسمها سلوك يسوع (وكل النصوص المجمعية وغيرها لا يجوز أن تأتي بما يناقضها). وما دام المقصود بالوحدة المسيحية ليس اعتماد هذا السلوك، بل التجمهر للتحول إلى كتلة ضاغطة، بصرف النظر عن البرامج، أو، على أحسن تقدير، الهروب إلى شعار الوحدة الفضفاض هرباً من قول «نعم نعم ولا لا»، فإنه من الأجدى مناقشة شعار «الوحدة المسيحية» كأداة تكتيكية لا تشير إلى المسيحية إلا من باب الدلالة على جماعة من الناس (كان في الإمكان أن يكونوا «الليبراليين»، أو «أفراد الطبقة الوسطى»، أو «اللبنانيين من أصل نروجي»...). ونقاش الأدوات التكتيكية يأتي بعد الاتفاق على الوجهة الاستراتيجية وأطيقا العلاقة بين الأطراف. فإذا ما أفضى النقاش السياسي إلى مشتركات كافية لإرساء اتفاق، كان به، وإلا فالديموقراطية كفيلة بتنظيم الاختلاف السياسي... هي التي تغتذي من الاختلاف وأبغض حلالاتها التوافق (التوافق على الأفكار، أما إذا كان توافقاً من نوع «نحن المسيحيين» فعندها يغدو أبغض الحرام).
ختاماً، ما لم يكن من فتوى مسيحية (إلى حين كتابة هذه السطور) تستنبت من الإنجيل أو التعليم الكنسي أو تراث الآباء ما يسمح برفض مطلب حكومة الوفاق الوطني، أو بمباركة صيغة معينة لقانون الانتخاب، أو بالحكم ما إذا كان في إمكان المهجِّر أن يؤتمن على حياة مهجَّره...
وما دام أحد لم يجرؤ، حتى الآن، على صياغة المرادف المسيحي لتسويغ السنيورة إلغاءه عطلة عيد التحرير بكون الإسلام يحرم عليه إضاعة وقت الناس...
وما دام أحد لا يناقش موضوع السياسة المسيحية انطلاقاً من الأخلاق الثورية التي اتسم بها سلوك يسوع تجاه السلطة، فلأتمتع بعلمانيّتي وأعلن: لسنا، في السياسة، كنيسة تُدار بإرشاد موحد، وإلا فليُصَر إلى تعدادنا، ولتحوَّل أصواتنا إلى أسهم تملكها كنيستنا في شركة الدولة المساهمة عوض أن ننتخب، ونفكر، ونعبّر... مع كل الهدر الذي تعنيه هذه الأنشطة.
نحن، في السياسة، أفراد... وما يجمع واحدنا مع آخر، أي آخر، هو مشترك يقع على تقاطع إرادتيهما وفكريهما، لا مجرد غريزة بقاء اجتماعية، أو رهاب آخر آخر.
قلتها بوضوح، وحبذا لو يقولها آخرون، ممن سئموا أن ينطق باسم آرائهم الاقتصادية والسياسية والتربوية... الإسلاموفونيون دعاة وحدة الصف الإسلامي.
علّ البعض يقلع عن شدّ التاريخ من شعره إلى نهاية من نوع «عاشوا بسبات ونبات»، كأن فيروز لم تغنِّ «مش كاين هيك تكون» وكأن نظرية ديوجينوس في الأبوكاتاستاز لم تصب الفكر الكنسي بالقشعريرة... وكأن المسيح، فيما لو قبل وفاق الأحبار مع بيلاطس لكان حقن دماً مسيحياً (أليس دم يسوع دماً مسيحياً؟ أوليست يدا يسوع ملطختين بدم مسيحي؟) ولكان اليسوعيون والقيافيون «عاشوا أحلى عيشة»!
* كاتبة لبنانية