ساسين عساف*
في مسألة لبنان ومشروع النهوض العربي نتوقف عند عنصرين من عناصر هذا المشروع: الديموقراطية والتجدد الحضاري....
أولاً ــ الديموقراطية:
ليست الديموقراطية مفتاحاً سحرياً لانجاز مشروع النهوض العربي... انها شرط ضرورة ولكنها ليست شرط كفاية..
بعض الكتابات الاميركية المعاصرة تصف الشرق الاوسط بصحراء الديموقراطية.. لبنان شكل منذ عشرينيات القرن الماضي واحة ولو محدودة المساحة في صحراء هذا الشرق. منذ تكوّنه السياسي واعلان دستوره وضع نفسه على سكة التطور الديموقراطي، سكة التغيير المنظم عبر المؤسسات الدستورية، معتمداً على مناهج خاصة (منها مثلاً المنهج الميثاقي) في توفير الوحدة والحرية والتنوع والمساواة وتداول السلطة وتظهير الارادة الوطنية.. فشهد دينامية سياسية كبيرة في مجال التعبئة والوعي والنضال وتأليف الاحزاب والحركات وتعددية الآراء والبرامج والرؤى وحرية التفكير والتعبير والتشكل والعمل السياسي، حتى بات يصح فيه قول الرئيس سليم الحص: في لبنان كثير من الحرية وقليل من الديموقراطية.. ذلك ان الديموقراطية في لبنان شابها الكثير من العيوب وهي تشكو من نواقص وخصوصاً في مجال حقوق الانسان الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
محكّات الديموقراطية في لبنان، على شوائبها ونواقصها، واجبة الوجود كاملة في الوطن العربي:
1 ــ الديموقراطية والسلطة:
كيف تتشكل السلطة في لبنان؟ تتشكل من خلال صناديق الاقتراع.. وشرط هذا التشكل، بصرف النظر عن نسبية تطبيقه، العمل السياسي المفتوح والمتاح امام الجميع في ظل نظام سياسي مبني على اعتماد التعددية والمشاركة والتنافس بين المعارضة والموالاة..
أما في الوطن العربي فالسلطة تتشكل إما بالوراثة وإما بالانقلاب...
2 ــ الديموقراطية والأمن الوطني:
الديموقراطية في لبنان شكلت سقف الحماية لسلمه الاهلي.. ولكن، بحكم تكونه الطوائفي وعدم انجاز وحدته الوطنية العابرة للطوائف وعدم انصياع السلطة (المارونية السياسية) لمطالب الناس في المشاركة وفي العدالة الاجتماعية وفي الاصلاح والتغيير، وجد نفسه في لحظات التحوّل الاقليمي امام تدخلات خارجية عصفت به وقادته الى الفتنة..
أما في الوطن العربي فاستُخدم الامن ذريعة للقمع وإلغاء الحريات والحياة السياسية، وذلك بشعار ان الامن الوطني هو فوق كل اعتبار.. هذا الشعار سوّغ قيام «السلطة» أو «الدولة الامنية»..
3 ــ الديموقراطية ومواجهة العدو والتحرير:
لا صوت يعلو فوق صوت المعركة هو شعار النظام العربي الرسمي.. باسم المواجهة قمعت أصوات الاعتراض.. أوكلت مهمة التحرير للجيوش النظامية (حراس السلطة والحكام، باستثناء انتصار تشرين) ومنعت قيام مقاومات شعبية أو حرب تحرير شعبية..
الديموقراطية في لبنان هي الاستثناء.. أنتجت المقاومة.. والمقاومة هزمت الاحتلال.. المجتمع المغلول لا يقاوم..
4 ــ الديموقراطية وبنية المجتمع:
في المجتمع البسيط تطبّق الديموقراطية العددية (التمثيل الاكثري).
في المجتمع المركب تطبق الديموقراطية التوافقية (التمثيل النسبي).
الديموقراطية في لبنان توافقية تحمي حق الجميع في المشاركة السياسية وخصوصاً حق الاقليات الطائفية والسياسية فتعطي الطوائف الحق في مراجعة المجلس الدستوري في بعض الشؤون حمايةً للخصوصيات، وتعطي الفئات السياسية حق النقض أو الفيتو باشتراطها اعتماد الاكثرية الموصوفة او اكثرية الثلثين في اتخاذ بعض القرارات الخاصة بالشؤون الاساسية في مجلسي الوزراء والنواب.
الديموقراطية التوافقية تحفظ التنوع في الوحدة.. وهي ديموقراطية نابذة للعقل الاستحواذي التذويبي الالغائي الاقصائي ومؤتلفة مع العقل الاحتضاني الحواري المعترف بالوجود السياسي للآخر..
المجتمعات العربية تشبه الى حدّ ما المجتمع اللبناني بتعدّد مكوناتها الدينية والطائفية والاتنية.. والديموقراطية المطلوبة لها في مرحلة تحوّل العدد من ديني وطائفي واتني الى عدد سياسي هي الديموقراطية التوافقية.
الديموقراطية العددية تصح فقط في مجتمعات يكون فيها العدد سياسياً..
أما المجتمع اللبناني، كما سائر المجتمعات العربية، فالعدد فيه ما زال دينياً وطائفياً وإتنياً.
5 ــ الديموقراطية وبنية الدولة:
الدولة في لبنان مدنية (ليست دينية وهي تحترم جميع الاديان من موقع محايد، مصادر التشريع فيها وضعية تحترم تعاليم الاديان واخلاقياتها، تحمي الحق في ممارسة الطقوس والشعائر وحوّلت عدداً من الاعياد الدينية الى أعياد وطنية، وتركت المجموعات والأفراد يحتكمون الى قوانين الطوائف في تدبير أحوالهم الشخصية..).
الدولة في لبنان مدنية.. القوات العسكرية فيها والاجهزة الامنية، في القانون والدستور، خاضعة للسلطة الاجرائية..
انها دولة قائمة على مبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها.. القضاء فيها مستقل عن السلطتين التنفيذية والتشريعية..
الحكم فيها هو في مجلس الوزراء مجتمعاً... وهو نقيض الحكم الفردي الاستبدادي... نظامها السياسي برلماني مجلسي.. والحكومة تحكم بإرادة الاكثرية النيابية.. في هذه الدولة تقوم مؤسسات المراجعة (المجلس الدستوري ومجلس شورى الدولة) ومؤسسات المحاسبة (محكمة الرؤساء والوزراء والنواب، ديوان المحاسبة، التفتيش المركزي، المجلس التأديبي العام..).
إن بنيات معظم الدول العربية لا تتوافر فيها مثل هذه التوصيفات، فضلاً عن قوانين الطوارئ ومحاكم أمن الدولة والمعتقلات السياسية والحكومات الاستبدادية..
6 ــ الديموقراطية والوحدة العربية:
الوحدة اللبنانية مرتكزة على قيم مشتركة ومصالح مشتركة.. انها تجمع البعدين المعنوي والمادي.. وهي قاعدة صالحة لبناء الوحدة العربية.. انما العقبة الاساسية امام الوحدة العربية هي انظمة الاستبداد.. فالحدود بين الاقطار العربية هي حدود الديكتاتوريات القائمة فيها.. بزوالها تمهد الطريق الى الوحدة.
7 ــ الديموقراطية الأصلية والديموقراطية الأميركية المجلوبة إلى الوطن العربي
الديموقراطية في لبنان ديموقراطية اصلية.. كانت هي الاساس في قيام لبنان المعاصر.. وهي مستوحاة من القيم اللبنانية وخصوصيات المجتمع اللبناني وتجاربه التاريخية وارثه الثقافي والحضاري العربي والانساني ومن علاقاته الأوروبية/المتوسطية.
أما الديموقراطية الاميركية المجلوبة الى الوطن العربي فهي ديموقراطية معتقل غوانتانامو وسجن ابو غريب، ديموقراطية القنابل وصواريخ الكروز والأسلحة النووية، ديموقراطية قتل الأطفال والنساء والشيوخ، ديموقراطية السيطرة ونهب الثروات.. في خطاب تنصيبه الثاني جعل بوش من تقدّم الحرية في العالم الهدف المحدد للسياسة الخارجية الاميركية.. دمقرطة العالم على الطريقة الاميركية لا تحترم خصوصيات الشعوب وقيمها ومساراتها المتفاوتة في التدرج الحضاري وتعتبر ان الانتخابات هي الديموقراطية المنجزة فيما الانتخابات ليست سوى خطوات أولية في مسار ونهج وثقافة.. الديموقراطية المطبقة في العراق هي ديموقراطية مركبة (فيدرالية)، ديموقراطية الجماعات المتصادمة، ديموقراطية الفتن الداخلية المستدامة، ديموقراطية «الفوضى الخلاقة»..
ان ديموقراطية بهذا التوصيف ليست هي المطلوبة بالطبع لمستقبل المجتمعات العربية..
ثانياً ــ التجدّد الحضاري:
1 ــ التجدد الحضاري والعقل الحر:
الليبرالية في الثقافة اللبنانية وفّرت للعقل اللبناني فرص الانفتاح المبكر على الحقول العلمية والمعرفية والتكنولوجية الحديثة فتحرر بفضل المفكرين اللبنانيين الليبراليين من استلاباته المتوارثة وبنيات القهر التاريخي والاخصاء الفكري الذي مارسته سلطات الاستبداد السياسية والاجتماعية والدينية..
مستقبل النهوض العربي شرطه العقل الحر القادر على اقتحام المحرم واللامفكر فيه والمغلق على البدائة والمسلمات اليقينية المبرمة..
النقلة من العقل الغيبي الاسطوري الى العقل العملي الواقعي هي المطلوبة لانجاح مشروع النهوض العربي في مسألة التجدد الحضاري..
ب ــ التجدد الحضاري والإصلاح الديني:
النهوض العربي يستوجب قيام حركة اصلاح ديني كتلك التي قامت في لبنان وفي مصر على يد رواد اصلاحيين أمثال محمد عبده ورشيد رضا والطهطاوي والأفغاني وعلي عبد الرازق وطه حسين وعبد الله العلايلي..
ان حركة اصلاحية دينية ينتجها عقل عربي متنور كفيلة بتجديد روحية الدين ورسالته الانسانية وهي الرد الطبيعي على استعداء الاسلام ووصمه زوراً بالارهاب..
ان عروبة متجددة لا ينهض بها سوى دين متجدد..
ج ــ التجدد الحضاري و«حضارة العولمة»:
في الربع الاخير من القرن الماضي دخل العالم في مرحلة حضارية جديدة نقلته من نظام العلاقات بين الحكومات الى التفاعلات بين الشعوب، اي من الديبلوماسية والامن والاقتصاد الى الثقافة..
ارث لبنان الثقافي وضعه على عتبات التحول في اتجاه عناصر القوة في حضارة العولمة: العقلانية، العلمية، النجاحية، العملانية، النقدية...
هذه المناهج هي الكفيلة أصلاً بإنجاح مشروع النهوض العربي في مسألة التجدد الحضاري..
د ــ التجدّد الحضاري والتأسيس المعرفي بالذات وبالآخر:
ان نظام التفاعلات بين الشعوب يؤطر العلاقة بين الهويات، بين الأنا والآخر، بين النحن والآخرين ويسقط الصور النمطية الراسخة في الاذهان.. فالعلاقة بين الهويات تبلورها رؤية متحركة للتاريخ وبها يعمل على تصفية الذعر التاريخي من الآخر..
لبنان بحكم تكوينه المقيم وتكوينه المنتشر دخل في نظام التفاعلات بين الشعوب على قاعدة الاخذ والعطاء، التأثر والتأثير.. فحقق أبناؤه نجاحات كبرى في الميادين العلمية والمعرفية والتكنولوجية وكان العقل اللبناني المهاجر السبّاق في إطلاق مشروع النهضة العربية الاولى منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ولم يأخذه مرض الخوف من الآخر (فوبيا).. الاكتمال المعرفي بالآخر شرط من شروط التجدد الحضاري..
التأسيس المعرفي بالذات يشترط تطوير الثابت بالاجتهاد على الاصل واعادة تكوين الفقه السياسي والديني والاجتماعي والتحرر من حال الانبهار بمنجزات الآخر في ضوء الوعي العقلاني لتداعياتها السلبية والايجابية..
ان دور لبنان الطبيعي هو في تجديد مشروع النهوض العربي.. والشعوب لا تسأل عن هوياتها بل عن أدوارها.. فالهوية هي للتاريخ أما الدور فهو للمستقبل.. ولا نجد مستقبلاً للبنان خارج مشروع النهوض العربي..
*عضو في الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي