ليلى نقولا الرحباني *
توالت الخطب في الإفطارات الرمضانية والمهرجانات، التي كان آخرها خطاب العماد ميشال عون الأحد الماضي، متوجاً «اليوم البرتقالي الطويل»، بعدما أرجئ المهرجان الذي كان مقرراً والذي تحول مهرجانات متنقلة في المناطق اللبنانية كافة.
وقد ألقى العماد عون كلمة مكتوبة، أعاد فيها تأكيد الثوابت، وضمّنها رسائل سياسية متعددة وجّهها نحو الداخل والخارج على حد سواء، ردّ فيها على كثير من التساؤلات التي طُرحت في الآونة الأخيرة والتي تناولت مواقفه معتبرة أنه حاد عن الخط السياسي الذي انتهجه التيار الوطني الحر طوال 17 سنة.
دحضت حشود «العونيين» الكثيفة التي تحدّت المطر الغزير واستبدلت ساحة المهرجان بالشوارع التي لم تسعها، المقولات التي سادت حول تدنّي شعبية العماد عون بسبب مواقفه الأخيرة من العدوان الاسرائيلي على لبنان، وهي مقولات ما زالت تتردد بين الحين والآخر، إذ سمعها اللبنانيون إثر الانتخابات النيابية، ثم على إثر توقيع ورقة التفاهم مع حزب الله، وخلال أي نشاط تنوي الأكثرية الحاكمة القيام به، وذلك في محاولة لخطف التمثيل المسيحي وجرّه الى مواقع تبيّن أنها لا تعبّر عنه.
بعدما أُثبت مرة جديدة أن شعبية التيار الوطني الحر ثابتة، بل ازدادت على الصعيد الوطني، طرح العماد عون تصوّره لبناء الدولة في لبنان «الذي نحلم به»، فماذا في هذا الخطاب؟
1) إعادة تأكيد الثوابت
إن هذا الخطاب «التوحيدي» الهادف الى الجمع بين اللبنانيين يحتاج الى قراءة هادئة وموضوعية، تحيط بجميع تفاصيله، وترى مدى ابتعاد العماد عون فيه عن ثوابته السيادية التي دفع ثمنها هو وأنصاره، نفياً واعتقالاً وسجناً وقمعاً.
استهل العماد عون خطابه، بالتشديد على الثوابت التي ما برح «العونيون»، يردّدونها منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. فذكّر بحادثة 13 تشرين الاول 1990، والعار الذي طبع كل من ساهم وحرّض وشارك وبارك، وكل من هلّل وفرح بهذه المأساة الوطنية. وأعاد التشديد على المواقف المبدئية التي طبعت مسيرة التيار خلال سنوات الوصاية السورية، وعلى المسلّمات، وعلى قناعات وسلوكيات «قاعدتها الصدق والنزاهة والشفافية»، وأعاد تأكيد الإيمان بنهائية الكيان اللبناني، وحقه في السيادة والاستقلال والحرية.
«سيادي بامتياز» هذا الوصف الذي يمكن أن يُعطى لخطاب العماد عون الذي ترجم مسيرته العسكرية والسياسية الطويلة، فعندما نراجع خطب المسؤولين اللبنانيين نلاحظ أن أحداً منهم لم يساوِ بين الشهداء الذين سقطوا في الدفاع عن لبنان، ضد الجيش الاسرائيلي أو السوري؟ حتى المطالبة بالمعتقلين اللبنانيين اختلفت بحسب خلفية السياسيين الحزبية، فمنهم مَن يطالب بالمعتقلين في السجون السورية وينسى الاسرائيلية والعكس بالعكس، وهنا نلاحظ أن العماد عون ساوى بين الاثنين، وساوى بين الاحتلالات معتبراً أن السيادة لا تتجزأ فإما «تكون أو لا تكون». وهذا يعد انسجاماً مع انتقاداته التي كان يوجهها خلال سنوات الاحتلال، لمقولات من عيّنة «السيادة المشتركة» أو «مزيد من السيادة»... التي استُبدلت الآن بمقولات «الصداقات الدولية».
2) التلازم مع ميثاق التيار
قام العماد عون بالتشديد على إيمانه بالانسان قيمةً بحد ذاته، والديموقراطية نظاماً للحكم وأسلوباً للحياة، والمساواة بين الرجل والمرأة بالاضافة الى قيم المواطنية والوحدة الوطنية والانفتاح على الحضارات، والتشديد على العروبة الحضارية المنفتحة، ونشر ثقافة السلام... وهي مبادئ تضمّنها ميثاق حزب التيار الوطني الحر.
3) وثيقة التفاهم الموقّعة مع حزب الله
أمر معهود أن يقوم الزعماء السياسيون بتضمين خطبهم المهمة بعض أسس وعقيدة أحزابهم، وبما أن التيار الوطني الحر لا يُعد من الاحزاب العقائدية كان من الطبيعي أن يقوم العماد عون بتضمين الخطاب مبادئ «الميثاق»، ولكن من غير الطبيعي، وخاصة في لبنان، أن يلتزم زعيم سياسي بتفاهماته، فيلحظها في خطاب بهذه الأهمية، ما يدل على أن العماد عون لا يقوم بتفاهمات لمصالح آنية، وهذا برز جلياً في الخطاب الذي تضمّن إشارات واضحة الى ورقة التفاهم الموقعة مع حزب الله.
في رده على الخطاب اعتبر الرئيس السنيورة أنه يشتمل على مبادئ هي محل توافق لجميع اللبنانيين، بل ومذكورة في البيان الوزاري للحكومة، وهذا ما أعلنه الاعلام المقرب من الأكثرية، لكن كما نذكر أن هذا الاعلام نفسه كان قد شن حملة على ورقة التفاهم التي وقعها «التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، معتبراً انها تصب في خانة المحور السوري ــ الايراني. وهذا يلزمنا بمقاربة خطاب العماد عون مع وثيقة التفاهم:
ــ تطرح الوثيقة الحوار سبيلاً وحيداً لحل الأزمات، والتوافق أساساً للعيش في لبنان، وتدعو الى قانون انتخاب عادل يوفّر التمثيل الصحيح ويحدّ من تأثير المال السياسي والعصبية الطائفية... وتتحدث عن بناء دولة عصرية على أسس راسخة وقوية، تعتمد معايير العدالة والمساواة والمؤسسات ونزاهة القضاء، ومعالجة كل أشكال الفساد... وهذا تماماً ما جاء في خطاب العماد عون، وخطاب السيد حسن نصر الله في مهرجان الانتصار.
ــ يتضمن الخطاب رفضاً لكل أشكال الارهاب، والعمل على تعزيز الامن الحقيقي الذي يقوم على نسج علاقات سليمة بين مكونات المجتمع اللبناني، وإصلاح الأجهزة الأمنية وإبعادها عن التدخلات السياسية... وهذه بنود وردت أيضاً في وثيقة التفاهم.
ــ أما في الشق الفلسطيني، فيؤكد العماد عون ضرورة إطلاق حوار جاد وعاجل مع السلطة الفلسطينية، ومعالجة السلاح الفلسطيني ورفض التوطين. وحدد تفاصيل العلاقات اللبنانية السورية، كما يراها، بإقامة «علاقات طبيعية وصحيحة، وذلك بمراجعة الماضي وأخذ العبر منه وعدم العودة إليه، ورفض أي شكل من أشكال الوصاية، وترسيم الحدود وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين...»، وهي مبادئ اعتبر بعض المحللين «انه يتقارب فيها مع قوى 14 آذار»، ولكن بعد المراجعة نلاحظ أن هذه البنود وقّع عليها طرفا وثيقة التفاهم في شباط الماضي، قبل أن تتبنّاها «الاكثرية» في مؤتمر الحوار الوطني.
باختصار، يبدو أن مبادئ وثيقة التفاهم وجدت لها حيزاً مهماً في خطاب العماد عون الذي اعتبر الرئيس السنيورة أنه محط اجماع لدى اللبنانيين. وهذا يوجب توجيه سؤال إلى قوى «الاكثرية»: إذا كانت هذه البنود جميعها هي محط توافق وطني كما يُعلنون، فلِمَ لم يدخل هؤلاء طرفاً ثالثاً في ورقة التفاهم مع التيار الوطني الحر وحزب الله؟ بينما يرى كثيرون أنهم لو فعلوا، لوفّروا على البلاد والعباد ويلات كثيرة ومآسي عظيمة، ليس أقلّها «حرب تموز 2006».
4) سلاح حزب الله
يعتبر مستقبل سلاح حزب الله من كبرى المسائل الخلافية في لبنان في الوقت الراهن، ولم يغفل الخطاب هذا الموضوع ولم يتغاضَ عنه، بل اعتبر «ان حماية لبنان هي مسؤولية وطنية يتقاسم أعباءها اللبنانيون ويتوافقون عليها في حوار وطني جامع، فيحددون خطة دبلوماسية واستراتيجيا دفاعية تُعتمدان في مؤسسات الدولة الشرعية».
«سلاح حزب الله مؤقت، وما وُجد إلا للدفاع عن لبنان» هذا ما أعلنه النائب العماد عون في خطابه، وأكده أيضاً السيد حسن نصر الله في خطاب «الانتصار» عندما كرر مرتين عبارة: «لا نريد أن نحتفظ بالسلاح الى أبد الآبدين، هذا سلاح لبناني يتطلع لحماية لبنان ولسيادة لبنان واستقلال لبنان»، وهذا ما وضعه الطرفان في وثيقة التفاهم أيضاً التي اعتبرت ان حمل السلاح ليس هدفاً بحد ذاته، وان انتفاء حمله يتم بانتفاء الأسباب الموجبة لذلك.
5) كشف الحقيقة عن الجرائم الإرهابية
لقد استهجن أحد المحللين عدم ذكر الخطاب للمحكمة الدولية، وهو قول يذكّرنا بآخر قال: «ان ورقة التفاهم لا تتضمن إدانة أو طلباً لكشف الجناة في قضية اغتيال الرئيس الحريري»، وهذا ما يتبين عدم صحته في الحالتين، إذ ان ورقة التفاهم نصّت صراحة على «إدانة جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما سبقها وما تلاها من جرائم وطالبت باستمرار التحقيق.... حتى جلاء الحقيقة وإحقاق العدالة». ولم يكتفِ العماد عون في خطابه الاحد الماضي بالمطالبة بجلاء الحقيقة عن كل الجرائم الارهابية، بل دعا أيضاً الى «احقاق العدالة».
وهنا يحضرنا تساؤلان مهمان نوجّههما للأكثرية وإعلامها:
ــ أولاً: هل من الضروري لكل زعيم سياسي في لبنان أن يردد «اللازمة» قبل الادلاء بأي تصريح أو خطاب، وإن لم يفعل، فهو خائن ملعون؟
ــ ثانياً: هل المحكمة الدولية التي تبغيها «الأكثرية» هي وسيلة لإحقاق العدالة، أم هدف بحد ذاته؟.
6) الموقف من قرارات الشرعية الدولية
يشدد الخطاب على شرعية مقاومة المحتل بالطرق السياسية والعسكرية، وهي من البديهيات التي تكفلها المواثيق والشرائع الدولية. وهو إذ يؤكد أهمية الانتصار الذي حققه اللبنانيون، يدعو جميع اللبنانيين الذين «تشاركوا في أثمان التحرير الى حماية لبنان وصون سيادته وحفظ كيانه»، معتبراً ان لبنان معني بالحفاظ على صداقاته الدولية وملتزم تطبيق قرارات الشرعية الدولية ومنها القرار 1701، الذي يتضمن تحرير كل التراب اللبناني وإطلاق الأسرى وضمان وقف الانتهاكات الاسرائيلية. لكن يتضح أن هناك إصراراً واضحاً لدى العماد عون على وجوب مقاربة مسائل السياسة الدولية من ناحية حقوقية، فالحق في رأيه «لا يتجزأ بل يكون هو ذاته أينما كان». من هنا يلفت الى ضرورة التطلع الى سلام حقيقي مع اسرائيل لا الى عقد تسوية، فالتسويات كانت تتم عادة على حساب حقوق الشعوب وعلى نحر العدالة، أما المطلوب فهو سلام حقيقي يؤسس على العدالة والشمولية لتقبله الشعوب كافة.
6) تحديد طريق الخلاص
لقد حدد العماد عون الأمور التي يحتاج إليها لبنان للنهوض، بدءاً باقتصاد التنمية والعدالة والتحسب، مروراً بعودة المهجرين بكرامتهم الى ديارهم، وإطلاق المعتقلين في السجون السورية والاسرائيلية، وعودة اللبنانيين النازحين الى اسرائيل، وإقرار قانون انتخاب عصري وحديث، وبناء أسس المواطنية السليمة... وهي مبادئ محط إجماع لدى المواطنين، لكن العماد عون يضع «خريطة طريق» لتحقيق هذه المسلّمات، والخروج من الأزمات التي تسهم الحكومة الحالية «العاجزة والمكابرة» في تفاقمها. ومفتاح الحل هذا، يتلخّص بثلاث خطوات: حكومة اتحاد وطني، فانتخابات نيابية وفق قانون جديد، فانتخاب رئيس للجمهورية.
وأخيراً، يدعو العماد عون قوى الأكثرية الحاكمة الى عدم المكابرة كما فعلوا في الماضي، إذ استغرقهم الأمر 15 سنة ليفقهوا أن بند الوجود السوري الذي اعترض عليه في الطائف كان بمثابة تشريع للسوريين باحتلال لبنان. ثم رفض الدعوة التي وجّهها إليهم في خريف عام 2004 بالجلوس الى طاولة حوار تبحث في خروج مشرّف للقوات السورية من لبنان، فلم يأبهوا، وكان ما كان.
يلفت خطاب العماد عون قوى الأكثرية الى عدم الاتكال على الدعم الخارجي لفرض معادلات في الداخل كما فعلوا إبان الاحتلال السوري.
وهنا لا بد لنا من تسجيل ملاحظة، لقد أثبت التاريخ البشري أن الشرعية الشعبية وحدها كفيلة بحماية الحكم ومؤسساته، وفي كثير من الأحيان دعمت القوى الخارجية عروشاً ما لبثت أن تهاوت، فما الذي استطاع الاتحاد السوفياتي السابق أن يقدمه الى الحكومات التي نصّبها في أوروبا الشرقية، عندما أراد الشعب التغيير؟
يبدو أن طموح العماد عون في خطابه الجامع دفع اللبنانيين الى الاعتراف بمجد لبنان العظيم والعمل على هذا الأساس لبناء دولة مؤسسات قوية، والخروج من ذهنية التبعية والاستجداء والمحاصصة، فهل ينجح؟
* باحثة في القضايا الإستراتيجية