قاسم عز الدين
قد يقول قائل متأثر بالمطرقة الاعلامية إنها مبادئ وقناعات خطاب مشخصن يقول بمثله مشخصن من الطبقة السياسية يحلم برئاسة الجمهورية وسواساً بعينه. لكنها في حقيقة الامر أكبر الحواجز في المساومة مع الطبقة السياسية للوصول الى الرئاسة مثلما هي المقاومة في حزب الله حاجز المساومة الى «الثلث المعطل». فالطبقة السياسية تحارب تحديداً مبادئ اعادة بناء الدولة في «التيار الوطني الحر» وترحّب بعون المسيحي رئيساً لجمهورية زعماء الطوائف كما تحارب المقاومة تحديداً في حزب الله أساساً لاعادة بناء الدولة وترحب (والمجتمع الدولي كله) بحزب الله الشيعي في السلطة «السياسية». فالمطرقة الاعلامية على عون «السوري» وعلى حزب الله «الايراني» تتقصد بالضبط تحجيم طموحاتهما بإعادة بناء دولة وحشرهما في لبنانية تقسيم حصص السلطة بين زعماء الطوائف وهو أمر عسير عليها إذ ان تجربة التيار والحزب تختلف اختلافاً بيّناً في الموضوع الاساس. فقد تشكلت الثقافة الجمهورية في التيار بمواجهة انهيار الدولة وتقسيم السلطة حصصاً كما تشكلت الثقافة السياسية في المقاومة بمواجهة عجز السلطة عن حماية سيادة الدولة وتحرير أراضيها من الاحتلال.
ولعل أهم مؤشر إلى قناعة التيار بفلسفة الدولة هو إهمال المبادئ والقناعات ذكر مبادئ وقناعات الطبقة السياسية: لم تذكر على سبيل المثال ان الصيغة اللبنانية التي ننعم بها منذ ولادتنا ينبغي ان نحافظ عليها أبد الدهر والنعمة فوق رقبتنا. لم تقل بقطع دابر «حروب الآخرين على أرضنا» بأغاني التحابب المنافق أو بعصبية وطنية شوفينية مسخ من غير عصب. لم تقل اننا شعب فريد بتعدّد طوائفه، موهوب بتعايشه لولا تدخّل الغرباء (كل بلاد العالم تغصّ بتعدد اثنياتها وطوائفها عدا أوروبا التي ذبحتها أثناء التراكم الأولي للثورة الصناعية)، كما لم تقل ان الطائفية آفة الآفات ينبغي محاربتها بلا هوادة كمن يحارب طواحين الهواء. لم تشد بتضحيات الذين قتلوا إخوانهم وأبناء بلدهم «من أجل لبنان» ولم تنشد مزيداً من عطف «المجتمع الدولي» الذي تلاقت اهتماماته مع «مصالحنا الوطنية» بمصادفة نبيلة، لم ولم، انما قالت بمبادئ وقناعات في بناء دولة تقوم بدورها وتؤدي وظيفتها الطبيعية بسبب حدة الانقسامات الداخلية وبسبب سهولة التدخلات الخارجية: تنظم التناقضات الداخلية السياسية والاجتماعية، تدير تبادل المصالح الوطنية والتبعية بين الدول وتفصل بين دولة السلطة وسلطة الدولة. في هذا الاطار يأخذ استهلال المبادئ والقناعات بتأكيد الحريات العامة مضموناً سياسياً. فالقول «ان المرأة شريك في المجتمع وصنع القرار، هو قول، في الثقافة الجمهورية، متصل برؤية جمهورية للدولة ودورها في بناء الوحدة الوطنية. وبينما ترى السلطة (أي سلطة) في الوحدة الوطنية التفاف كل الفئات والأعمار والأجناس حول خطاب سياسي وطني عمومي (هو خطاب التوحّد وتأجيل التناقضات الداخلية)، تنظر الثقافة الجمهورية في حرية تعبير كل فئة عن حقوقها الخاصة (ومشاركتها في صنع القرار) أساساً في بناء الوحدة الوطنية اذ هي والحالة هذه قواسم مشتركة لمجمل الحقوق تديرها الدولة. وفي هذا السياق يمكن قراءة معظم فقرات المبادئ والقناعات انما بحثاً عن مضمونها السياسي خلف ظلال الكلمات المتداولة في سياق آخر. فعندما تقول احدى الفقرات «بمجتمع يتضامن مع فئاته الضعيفة والمهمشة» تقول بموضوع ذي صلة وثيقة بالحقوق ومسألة الوحدة الوطنية. فدور الدولة الاهم هو اخضاع الاقتصاد لسياسة اجتماعية تضامنية وهي اذ تضع كوابح سياسية ــ اقتصادية امام جرافة تهميش القطاعات الصغيرة في المنافسة الحرة مع «المال والاعمال»، تقوم عملياً بتنظيم مجمل الحقوق انما في عملية انتاج الثروة وتوزيعها وهو تنظيم المشترك في الوحدة الوطنية مناقض لنظام توزيع الحسنات على الرعايا بل مناقض لفلسفة الاقصاء والتهميش التي تسمّيها سلطات المال والاعمال «صمامات أمان اجتماعية». ان هذا الامر شديد الالتصاق بدوره بـ«اعادة صياغة النظام الضريبي والتشدد في ضبط الانفاق العام (الملكية الخاصة للثروة العامة) وتصحيح معنى الانماء المتوازن بين مناطق لبنان كافة»، هو أمر تبني به الثقافة الجمهورية فلسفة علاقة الدولة بالمواطن (المواطنة = دفع الضرائب) انما تبني كذلك رؤية متكاملة في تنظيم تماسك الوحدة الوطنية والانماء المتوازن حيث تتشابك مصالح كل منطقة بتطور المناطق الاخرى فالانماء المتوازن ليس تقسيم الانماء العام على المناطق انما هو قيمة مضافة مشتركة بين المناطق.
الثقافة الجمهورية امام اشكاليات «تجاوزتها» الطبقة السياسية:
ــ الاشكالية الاولى في ان الطبقة السياسية تخلت عن عذاب القلب في تقرير سياسات الدولة وتبنت خيارات التبعية بملء ارادتها تعبيراً عن استقلالها وحرية خياراتها (تلاقي المصالح) ولا اظنه يكفي تغيير الخيارات المحلية لتغيير سياسات التبعية انما ينبغي تغيير موازين القوى في واقع أوسع من بلاد الأرز تتشابك فيه كل الملفات وفي مادة الحياة نفسها (الشراكة الاوروبية، آليات السوق الحرة، الاحتلال المباشر، العسكرة...).
ــ الاشكالية الاخرى في ان التقاليد الجمهورية تقوم على تنظيم الدولة من فوق استناداً الى ان الديموقراطية هي التوازن في الدولة (سلطة ومعارضة، فصل السلطات، سياسة الحقوق المتناقضة)، بينما تثبت التجارب الحديثة ان الديموقراطية هي توازن بين سلطة الدولة (سلطة ومعارضة) وبين سلطة معنوية موازية في المجتمع المدني (تيارات سياسية وفكرية وروحية، جمعيات، روابط، نقابات). وفي بلاد كبلادنا ذاقت مرارة السلطة ولم تعرف حلاوة طعم الدولة يبدو ان المجتمع المدني مضطر الى المساهمة الحثيثة في بناء الدولة كي يعيش في المجتمع المدني (وظيفة مزدوجة). يفضي هذا الامر الى ضرورة تحديد التيار الجمهوري القوى الاجتماعية التي تحمل مشروع الدولة، انما يفضي الى اعادة تكييف التقاليد الجمهورية في تنظيم هذه القوى وتشابكها في المجتمع المدني. اثر عرض المبادئ والقناعات تعهّد ناشطو «التيار الوطني الحر» بإطلاق حملة واسعة لشرحها للناس. الحري بهم إطلاق حملة واسعة لإنشاء آليات عمل بين الناس تفيد من معرفتهم بشؤونهم وتوجّه طاقاتهم في إنشاء سلطة معنوية موازية تؤثر في خيارات السلطة، وحسبنا ان هؤلاء الناشطين أعادوا الاعتبار للسياسة «المحترمة» مثل كثيرين غيرهم في تيارات أخرى.
* كاتب لبناني