عبد الإله بلقزيز *
أبدت حركة «فتح» شغفاً غير عادي بالسطلة في بحر الأزمة الراهنة المفتوحة بينها وبين حركة «حماس» والحكومة الفلسطينية القائمة. لعلها ما ألفت ان تكون يوماً في موقع المعارضة بعدما أدمنت طويلاً على أداء دور القيادة منذ أربعين سنة. والأرجح ان موقع رئاسة السلطة ــ وهو لها ــ ليس يكفيها كي تشعر بالأمان أو كي تطمئن إلى دورها التقليدي القيادي في الحياة الوطنية الفلسطينية. فمجرد وجود مؤسسة من مؤسسات السلطة في يد فريق سياسي آخر غيرها (هي الحكومة) يضغط على اطمئنانها السياسي والنفسي الى أوحدية دورها في «النظام السياسي» الفلسطيني. وما همّ إن كان من زاحمها الموقع القيادي قد وصل الى ذلك الموقع برضا الناخبين وبأسلوب الشرعية الديموقراطية، فالديموقراطية في بعض ثقافتنا السياسية حمّالة أوجه!
السلطة معضلة في عقل «فتح». هي السبب في انقسامها الى تيارين فأكثر في السنوات الأخيرة، وهي اليوم ما «يوحدها» أو ما يدفع المختلفين فيها الى التحدث بلسان واحد. ومن أجل ان تعود الى السلطة، التي فقدتها في الاقتراع الشعبي، لا يحرجها كثيراً ان تتوسل كل الوسائل في سبيل ذلك، حتى وإن كانت وسائل مجافية لتقاليدها الوطنية ولمناقبية رجالاتها الكبار الراحلين!
أشد ما يؤسف من شاطروا «فتح» مشروعها الوطني ودافعوا عنه أن يروا نمطاً جديداً من الفعل السياسي الفتحاوي لا يتحرج في استثمار الحصار الاقتصادي الاميركي ــ الاسرائيلي (ولك ان تضيف العربي) للشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة لتصفية حساب سياسي مع فريق داخلي في السلطة! ولا يتحرّج في الضغط على ذلك الفريق للتجاوب مع إملاءات العدو وحماته! ليس هذا من تراث «فتح» التي نعرفها: «فتح» ياسر عرفات وكمال عدوان وأبو جهاد وأبو أياد وخالد الحسن وفاروق القدومي وأبو الهول وفيصل الحسيني ومروان البرغوتي...
ان العودة الى السلطة بأي ثمن أمر ممكن لحركة «فتح». لكنه مكلف أخلاقياً، وقد يدمر البقية الباقية من إرثها الوطني ومن صدقيتها وشعبيتها وثقة الجمهور بها.
الوجه الثاني للمشكلة اسمه حركة «حماس». عرفنا «حماس» حركة مقاومة وطنية منذ ميلادها قبل قرابة تسع عشرة سنة. لم تكن يوماً معنية بالمشاركة في المؤسسات السياسية، فالسياسة عندها ــ ولفترة طويلة ــ تختصرها عبارة واحدة وحيدة: القتال، قتال الاحتلال لتحرير الوطن. غير ذلك مضيعة للوقت. كانت حينها ترفض حتى الانضمام لمنظمة التحرير لأن ثوبها السياسي أضيق من حجم برنامج «حماس». وحين وقعت الواقعة، وخرج «اتفاق أوسلو» ــ السيئ الصيت ــ الى الوجود وأثمر سلطةً للحكم الذاتي مطعوناً في شرعيتها الوطنية، اتخذت «حماس» الموقف الذي يفترض ان تتخذه أية حركة تحرر وطني: رفض «الاتفاق».
وحيث الانسجام واجب في السياسة، وخصوصاً حين تستند الى مبادئ ثورية، كان على «حماس» ان ترفض ما نجم من ذلك «الاتفاق» من مؤسسات. وكذلك فعلت، فحجبت اعترافها بالسلطة، وقاطعت انتخابات رئاسة السلطة وانتخابات المجلس التشريعي قبل عشر سنوات. ثم لم تتنازل عن حقها في مقاومة الاحتلال متحمّلة وجبات القمع المتلاحقة من جهاز «الأمن الوقائي». وفجأة، بدأت «حماس» تخوض في السياسة، فتنسى ــ شيئاً فشيئاً ــ انها، في المقام الأول، حركة مقاومة: تماماً مثلما حصل لحركة «فتح» منذ «اتفاق أوسلو»! وأية سياسة يا ترى: السياسة الفلسطينية الرسمية المتحركة في مدار «أوسلو»!
كرّت سبحة التحوّل: من «الهدنة» من جانب واحد، الى المشاركة في الانتخابات البلدية و«التشريعية»، الى تأليف الحكومة، الى الاستماتة في الدفاع عن حق البقاء فيها بأي ثمن! واليوم، يتبدى كم كان هذا الخيار السياسي مكلفاً لحركة «حماس». فلقد خسرت موقع القوة الرئيس في المقاومة من دون ان تستطيع ادارة السلطة الحكومية ادارة ناجحة أو إجابة مطالب الكتلة الشعبية التي أوصلتها الى السلطة!
سيقال ان «حماس» ليست مسؤولة عن حالة المجاعة وفقدان الموارد المالية لدفع الرواتب والفوضى الامنية العارمة، وانما الحصار الاقتصادي والمالي الاميركي ــ الاسرائيلي على الشعب والسلطة هو المسؤول عن ذلك كله، وهذا صحيح من دون شك. ولكن، ماذا كانت تنتظر «حماس» من سلطة مقيدة بإرادة واشنطن وتل أبيب؟ هل نسيت أن هذه الحكومة مؤسسة من مؤسسات اتفاق المذلة المسمّى «اتفاق إعلان المبادئ» (في أوسلو)، وان العمل ضمنها يضع صاحبه في دائرة الضغط الاميركي ــ الصهيوني؟
سيقال ان هذه الحكومة حق شرعي لحركة «حماس» أخذته برضا الأغلبية الشعبية. لا نجادل في هذا الحق إن حكّمنا المعايير الديموقراطية. ولكن، ماذا لو حكّمنا المعايير الوطنية وعدنا بالمسألة الى نصابها، عندها نتساءل: هل هذه الحكومة ــ وسواها من مؤسسات «أوسلو» ــ تتمتع بشرعية وطنية؟
هل انبثقت من إرادة وطنية حرة للشعب أم فرضها الاحتلال وأملاها «اتفاق» مذل مع الاحتلال؟
على «حماس» أن تجيب عن هذا السؤال بضمير وطني صادق لا بمفردات البراغماتية السياسية. وحين تحكّم موقفها الوطني المقاوم، لن يتضخّم حرصها على بقاء الحكومة بأي ثمن. أما الآن، فتمسكها بموقعها ــ وإن كان مشروعاً بمقتضى الشرعية الديموقراطية ــ يحتاج الى ان يستذكر حقيقتين مترابطتين: إن أي شرعية ديموقراطية لا تكون كذلك إلا إذا قامت على شرعية وطنية ــ وسلطة الحكم الذاتي لا تملك هذه الشرعية ــ ، وإن موقع «حماس» الطبيعي هو حركة التحرر الوطني لا السلطة.
لسنا نرضى لـ«حماس» بهذه الحكومة كما لم نكن نرضى بها لحركة «فتح» لأننا ــ أصلاً ــ لا نرى في السلطة الفلسطينية إلا أكذوبة سياسية سوّقوها للشعب الفلسطيني فأوهموه بأنها نواة دولته المقبلة، فيما الهدف منها تزوير قضيته والايقاع بين أبنائه وفصائله، تماماً مثلما حدث في عهد «فتح» ويحدث في عهد «حماس». وقبل ان يصل المجتمع السياسي الفلسطيني ونخبه الى الاقتناع بوجوب حل هذه السلطة الأكذوبة والعودة الى الرشد السياسي والوطني، سيكون علينا ان نحفظ الحقيقة التالية من أي تبديد: إن شعب فلسطين ما زال حتى اليوم في مرحلة التحرر الوطني.
*استاذ جامعي - المغرب