خالد صاغيّة
فلنتخيّل بلاداً تملك أراضيها عائلة حاكمة واحدة. ويقوم اقتصادها على السياحة ومناطق التجارة الحرّة. ويشكَّل نظام الحكم فيها على صورة مجالس الإدارة داخل الشركات، لا على صورة البرلمانات الديموقراطية. وتسعى سياساتها الاقتصادية إلى خفض الضرائب وصولاً إلى إلغائها بالكامل. أمّا الطبقة العاملة فتُستورد من الخارج للعمل خدماً داخل البيوت، وأشباه عبيد خارج البيوت، بأجور أقلّ من متدنّية. وتجنّباً لأي اعتراضات، تُهمّش المعارضة السياسية، تُمنع من الوجود أو تُعزل. أمّا السياسة فتتركّز على عزل البلاد عن المحيط، وعدم السماح للتوتّرات السياسيّة بتخريب هذه «الجنّة على الأرض».
إنّ بلاداً كهذه موجودة بالفعل. ولها اسم محدّد: إمارة دبي. لكنّ بلاداً كهذه، إضافة إلى ما تقوم به من أدوار مباشرة تتّصل بسكّان أراضيها، فإنّ لها دوراً غير مباشر يتعلّق بدول المنطقة. دور يمكن تسميته مجازاً الإغواء. فإذا كانت دبي لا يمكنها ولا ترغب في توريد نموذجها، فإنّها تغوي دولاً أخرى لمحاولة محاكاة هذا النموذج، فيما تعلم هي ويعلم الجميع أنّ تلك الدول لن تستطيع الوصول إلى ما وصلت إليه الإمارة الخليجيّة.
ليست دبي وحيدة في تقديم نموذج الإغواء هذا. فقد قدّمت المكسيك يوم دُعمت من الولايات المتحدة بشتّى الوسائل منعاً لانهيارها الاقتصادي، نموذجاً لدول أميركا اللاتينيّة حتّى لا «تنحرف» نحو اليسار. كذلك حصل مع كوريا الجنوبية التي أُريد لها أن تقدّم نموذجاً مضاداً للعملاق الصينيّ المحاذي لها.
ثمّة تساؤلات كثيرة عن إمكان دبي الاستمرار في أداء دور الإغواء هذا. فمنطقة الخليج تبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى على خط الزلازل. والاضطهاد العمّالي الذي كان ساكناً، تحوّل أخيراً، على رغم كلّ القمع، تظاهرات ومطالب وإضرابات. لكنّ ذلك لم يرقَ بعد إلى مستوى تهديد فعليّ للنموذج الإماراتيّ. لذلك يمكننا القول إنّ القصّة ليست هنا. القصّة في بلاد كلبنان، حيث يمكننا القول إنّ دبي كانت علناً وسرّاً غاوية بيروت ما بعد الطائف. حاولت الحكومات المتعاقبة محاكاة كلّ ميزة من ميزات نظام الإمارة الخليجية: من محاولة جذب مراكز الشركات الكبرى في المنطقة، إلى التخلّي عن تقاليد ديموقراطية، إلى استيراد العمالة، إلى اتّجاهات النظام الضريبي، إلى تشجيع قطاعات وإهمال أخرى، إلى نوع المشاريع التي نفّذت وحجمها... إلخ. لكنّ الواقع اللبناني (والإقليمي) كان دائماً يقف حاجزاً أمام المضي في المشروع حتّى نهاياته.
يُقال هذا الكلام اليوم لأنّ ما تقوم به القوى الحاكمة الرافضة التنازل عن ثلث معطّل لا تملك في الواقع أيّ مشروع «خرج يتعطّل». كلّ ما نسمعه ليس إلا ترداداً لكليشيهات دون مستوى المشروع «الأصليّ» الذي لم يكن سوى محاولة مشوّهة لمحاكاة تجربة إمارة دبي. إنّنا أمام بكاء مستمرّ على أطلال مشروع دبي «المبتور»، الذي لا يكفي الخروج السوري من لبنان كي يصلحه أو يكمله.
الاعتراض على بكائيات سلطة اليوم يمكن تلخيصه بما جاء يوماً على لسان واحد من أهم المعماريين الشباب في البلاد حين قال: «إنّ ما يتناسونه حين يتحدّثون عن نموذج دبي هو أنّ بيروت مدينة لها روح».
الصراع في لبنان اليوم هو تحديداً حول هذه «الروح». هذا هو الاسم الحقيقيّ للصراع. أمّا من يريد أن يمضغ الهواء ففي إمكانه أن يتحدّث عن سياديّين وخونة، وديموقراطيين وشموليّين، أو حتّى... ظلاميّين ومولعين بالحداثة.
وبالمناسبة، لا يزال الهواء مجانياً لمن يحترف عادة المضغ.