غالب أبو مصلح *
وقّع الرئيس بوش وثيقة تحدد سياسة دفاعية جديدة للولايات المتحدة. تقول هذه السياسة برفض الدخول في أية مفاوضات مستقبلية تحدّ من حرية الولايات المتحدة في التسلح. وتؤكد السياسة الجديدة حق الولايات المتحدة في التصدي لأية قوة «معادية» للمصالح الأميركية، تحاول الدخول إلى الفضاء، أي إن الفضاء أصبح «أرضاً أميركية» بشكل ما.
وربطت السياسة الدفاعية الجديدة أمن الولايات المتحدة القومي والداخلي بسيطرتها على الفضاء. ورأت أن إنجاز السيطرة على الفضاء «من دون عائق» أمر ضروري «للدفاع عن مصالحها فيه».
وتوضيحاً لهذه السياسة الدفاعية الجديدة قالت «تيريزا هينشر»، مديرة مركز المعلومات الدفاعية، إن سياسة بوش هذه «تفتح الباب أمام الاستراتيجيا القتالية لحرب الفضاء».
إن هذا الطرح يعيدنا إلى مشروع حرب النجوم الذي طرحه الرئيس رونالد ريغن في الثمانينيات. وجرى التخلي عنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتوقيع الولايات المتحدة معاهدات الحد من التسلح مع الاتحاد الروسي. ربما كان هذا الفكر الاستراتيجي الجديد لا يعبّر فقط عن رؤية المحافظين الجدد، بل عن رؤية النخب الأميركية الحاكمة بجميع أطيافها السياسية، وإن هذه الرؤى الاستراتيجية تعبّر عن مأزق الإمبريالية الأميركية في مرحلتها الأكثر احتكارية وعولمة، وفي مرحلة انحدارها النسبي.
إن مشروع هيمنة الولايات المتحدة على الفضاء يشكل تحدياً لجميع دول العالم وعدواناً على مصالحها، حيث تزداد أهمية الفضاء في حياة شعوب العالم كافة. فالاتصالات والمعلوماتية والمسوح الجيولوجية، ومراقبة المناخ والتنبؤ بمتغيراته، تعتمد إلى حد بعيد على اقتحام الفضاء، وذلك بجانب الاستعمالات العسكرية والتجسسية. وطرد الولايات المتحدة دول العالم «غير الصديقة» من الفضاء، ووضعها أسلحة دمار شامل فيه، يعني امتيازاً أميركياً وابتزازاً على الصعيد العسكري، وامتداداً للعدائية الأميركية على معظم شعوب العالم إلى هذه الآفاق الجديدة.
فهل تشكل هذه الاستراتيجية الجديدة خطة عملية يمكن تحقيقها، وهل تضمن هذه الخطة في حال تنفيذها استمرار الهيمنة الإمبراطورية على العالم، في الوقت الذي ينفلت فيه العديد من دول العالم، في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط في شكل خاص، من هذه الهيمنة؟ أم هذه الاستراتيجية الجديدة تمثّل هروباً إلى الأمام لإمبراطورية بدأ نجمها بالأفول؟
على الرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي اعتبره الإعلام الأميركي محور الشر في العالم في ذلك الحين، لم تتوقف الولايات المتحدة عن زيادة إنفاقها العسكري. وبلغ هذا الإنفاق في السنة الجارية أكثر من خمسمئة مليار دولار، أي ما يقارب خمسة في المئة من الناتج المحلي القائم للولايات المتحدة، مئة مليار منها لتغطية نفقات احتلالها العراق. ويمكن أن يصل عجز ميزان المدفوعات الجاري الأميركي عند نهاية هذه السنة إلى تريليون دولار حسب بعض التقديرات. لم يكن الإنفاق العسكري الأميركي المتصاعد نتيجة ارتفاع المخاطر التي تهدد الأمن القومي في الماضي كما في الحاضر، بل كان حاجة تفرضها بنية الاقتصاد الأميركي، ويفرضها المجمع الصناعي العسكري، كما تفرضها مصالح الشركات الأميركية الكبرى المعولمة، التي تمهد لها الترسانة العسكرية وقواعدها في العالم طريق النفاذ إلى الأسواق الخارجية والسيطرة عليها وفرض معاهدات «شراكة» غير عادلة بالمطلق، مثل تلك الاتفاقات الاقتصادية التي فُرضت على البحرين وعمان وقطر في الآونة الأخيرة. فقد فرضت الولايات المتحدة اتفاقات تجارة حرة بمحادثات منفردة مع هذه الدول، مع استبعاد أهم الصادرات التي تملك هذه الدول فيها قدرات تنافسية، مثل النفط ومشتقاته والصناعات البتروكيماوية، والصناعات المعتمدة على الطاقة، مثل صناعة الألومنيوم.
إن القدرات العسكرية الأميركية تعمل على تعويض مؤسسات الاقتصاد المصدّرة، بعض ما خسرته من قدراتها التنافسية، وتهدف إلى السيطرة والهيمنة على مصادر المواد الخام الاستراتيجية وخاصة النفط ومنابعه وطرق إمداده. إن هذه السيطرة تعد مصدر قوة استراتيجية تهدد دول العالم وتبتزّها أيام السلم وأيام الحرب، وهي أحد المرتكزات الأساسية للإمبريالية الأميركية. إن استمرار استقرار الساحة الداخلية للولايات المتحدة، في وقت تتسع فيه الفروق الطبقية، وتتراجع فيه المداخيل الحقيقية للطبقات العاملة والطبقة المتوسطة، وتتضاعف فيه مداخيل الشرائح العليا في المجتمع، يتطلب تنصيب فزّاعة للجماهير تُدخل الخوف في روعها، لطمس وعيها، فتنساق إلى قبول ما يُطلب منها من تضحيات اقتصادية واجتماعية، وتنازلات عن بعض حرياتها وحقوقها الديموقراطية والاجتماعية، بغية صون أمنها القومي والداخلي من تهديدات موهومة.
كانت الإمبريالية الأميركية في حاجة إلى فزّاعة جديدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فطرحت مفهوم «الدول المارقة» ومقولة الإرهاب كتهديدات للأمن القومي الأميركي. وفي الحرب على الإرهاب، حيث العدو هيولي وغير محدد أو محصور في مكان وزمان، يمكن تبرير أي مغامرة إمبريالية بمجرد إلصاق تهمة الإرهاب بالضحية، وبالاستناد إلى مبادىء بوش في الحرب الوقائية أو الاستباقية. وتأتي وثيقة حرب النجوم الجديدة استمراراً لهذا النهج الإمبريالي المتصاعد.
ولكن ألا يشكل هذا التوجه إلى احتكار الفضاء نوعاً من الهروب إلى الأمام بعد ظهور علامات العجز الأميركي في السيطرة على الأرض؟ وهل تستطيع الإمبريالية الأميركية تعويض ما خسرته على الأرض بما تطمح إليه في السماء؟
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الهيمنة الأميركية على العالم ــ خارج المعسكر الاشتراكي ــ شبه تامة، تعكس موازين القوى على الصعد الاقتصادية والعسكرية والعلمية. وأنشأت الولايات المتحدة حينذاك نظاماً عالمياً، سياسياً واقتصادياً، يعكس التفوق الأميركي المطلق. كانت الولايات المتحدة أكبر دولة دائنة في العالم ويزيد ناتجها المحلي على 45% من الناتج العالمي، وتستهلك أكثر من 40% من معظم الخامات المستخرجة والسلع المنتجة في العالم. وبنت النظام العالمي ومؤسساته السياسية والاقتصادية والمالية ليكون هذا النظام في خدمة مصالحها وخاضعاً لهيمنتها ومعبّراً عن تفوقها.
ولكن قدرات أميركا الاقتصادية سرعان ما بدأت بالتراجع النسبي مع إعادة بناء الاتحاد السوفياتي وإعادة إعمار الدول الأوروبية واليابان. وأدت استعادة الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا واليابان، قدراتها التنافسية، إلى ظهور عجوزات متصاعدة في موازين المدفوعات الأميركية كافة، ما دفعها إلى إسقاط العديد من اتفاقات بريتون وودس أملاً في تحسين موازين مدفوعاتها. فقد أسقطت الولايات المتحدة النظام النقدي العالمي الذي ربط سعر صرف الدولار بالذهب، وربط عملات الدول بالدولار مع حق تبديل الدولار بالذهب وبسعر ثابت. هذا النظام الذي أنجز نوعاً من الاستقرار النقدي في العالم. وبعد إسقاط جزء كبير من اتفاقات بريتون وودس، انتقل العالم إلى سعر الصرف العائم، أي إلى اللانظام النقدي، ما أوقع أسواق المال العالمية في أزمات واضطرابات حادة.
وإن عدداً كبيراً من دول العالم الثالث، وعلى رأسها الصين الشعبية، أخذ في النمو السريع والانتقال إلى الحداثة، مغيّراً موازين القوى في العالم. فقد أصبح الناتج المحلي للدول النامية يمثّل أكثر من نصف الناتج العالمي مقاساً بالقدرة الشرائية «purchasing power parity»، ونما نصيبها من الصادرات العالمية من 20% عام 1970 إلى 43% اليوم. وفي كل عام يتخرّج مليون ومئتا ألف مهندس من الجامعات الصينية والهندية فقط. ويوازي ذلك جميع عدد الخريجين من جامعات أميركا والاتحاد الأوروبي واليابان مجتمعين، ويساوي ثلاثة أضعاف ما كانت تخرّجه الجامعات الصينية والهندية منذ عشر سنوات. وعام 1970 كان نصيب أميركا من المجموع العالمي للطلاب الجامعيين يساوي 30%، وأما الآن فأصبح نصيبها 12% فقط. وعام 2004 سبقت الصين الولايات المتحدة كقائدة لتصدير بضائع المعلوماتية.
ويعاني الاقتصاد الأميركي ضعفاً كبيراً في العديد من مقوّماته. فقد بلغ الدين الأميركي الكلي ــ الخارجي والداخلي ودين قطاع الأعمال والقطاع المنزلي ــ ما يزيد على 37 تريليون دولار. وتجاوز الدين العام الخارجي وحده 7 تريليون دولار، ومن المنتظر أن يرتفع هذا الدين الخارجي بحوالى تريليون دولار سنوياً إذا ما استمرت السياسات المالية الأميركية على ما هي عليه. انخفض معدل الادخار العام الأميركي إلى السلبية مقارنة مع معدل ادخار الصين مثلاً الذي يقارب خمسين في المئة، وذلك بفضل معدلات الادخار المرتفعة لمؤسسات القطاع العام التي لا توزع أية أرباح.
وتكاد فقاعة قطاع المنازل أن تنفجر وأن تدفع بانفجارها الاقتصاد الأميركي إلى ركود كبير. فخلال السنوات الخمس المنصرمة ارتفع ثمن جميع المنازل الأميركية بأكثر من تسعة تريليون دولار، فوصل ثمن جميع المنازل إلى 22 تريليون دولار، أي إلى ما يوازي قرابة ضعف الناتج الأميركي القائم. وتعد فقاعة المنازل الفقاعة الكبرى في التاريخ الأميركي. وقد سمح نموها بتحويل الموارد المتاحة بعيداً من التوظيف في قطاعات الإنتاج إلى الاستهلاك، وخفض معدلات الادخار في القطاع المنزلي إلى السلبية. أما انفجار هذه الفقاعة المتوقع قريباً، فسيدخل الاقتصاد الأميركي في مأزق يصعب الخروج منه من دون إجراء خفوضات كبيرة في معدلات الاستهلاك العام والخاص، ويدفع الاقتصاد إلى المزيد من الانكماش كنسبة من الناتج العالمي القائم.
يتزامن كل ذلك مع ارتفاع الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الأميركي، وانتقال أعمال العديد من الشركات الكبرى، جزئياً، إلى الخارج بغية خفض كلفة الإنتاج لديها ولدخول أسواق ناشئة كبيرة بقدرة تنافسية عالية، وهرباً من الضرائب المحلية المرتفعة نسبياً، ما يعمّق المأزق الاقتصادي الشامل. ويتزامن كل ذلك مع تعثّر المغامرات الإمبريالية الأميركية في العالم، وخاصة في العراق وأفغانستان، وظهور العجز العسكري الأميركي في خوض الحروب غير المتوازية. إن الاستراتيجيا العسكرية الأميركية التي تركّزت بعد هزيمتها في فييتنام على تطوير الأسلحة الكبيرة والذكية العالية الكلفة بغية التقليل من الإصابات بين جنودها، أثبتت عدم قدرتها على تحقيق الانتصار على شعوب مصمِّمة على التحرر ورفض الخضوع للإمبريالية الجديدة. إن فشل الاستراتيجيا العسكرية الأميركية، والسلاح الذكي الأميركي في العراق وأفغانستان، وأخيراً في لبنان، دفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في كل استراتيجياتها العسكرية وأنماط الأسلحة المطلوبة التي تمكّنها من خوض الحروب غير المتوازية وتحقيق أهدافها الإمبريالية في العالم. فقد قررت الاستغناء عن قواعدها العسكرية الكبيرة في الخارج واستبدالها بقواعد أصغر وأكثر عدداً وانتشاراً، بعضها نائم، وبعضها الآخر جاهز للتدخل السريع بغية حماية زبائنها الحاكمين ومصالحها في كل أنحاء العالم، والاستعاضة من بعض أسلحتها العالية التقنية والكلفة بأسلحة تقليدية أكثر تدريعاً وفعالية، وتوظيف أكبر في القوى البشرية الميدانية.
إن هذا التحول في الاستراتيجيات العسكرية الأميركية مضافاً إليه الزيادة الكبيرة في كلفة الحرب في العراق، دفع البنتاغون إلى خفض طلباته من الأسلحة العالية الكلفة، ما ألحق أضراراً كبيرة في المجمع الصناعي العسكري. فها هي شركة «بوينغ» تقفل خطوط إنتاج طائرة النقل العملاقة C-17، بسبب توقف البنتاغون عن طلبها. وانخفض عدد ملتزمي الصناعات العسكرية الرئيسيين من 15 شركة إلى خمس شركات. ولكن التحولات العميقة في الاستراتيجيا العسكرية يهدد ربحية هذه الشركات الخمس التي بلغت 13 مليار دولار عام 2005. مثال على ذلك إمكانية تقليص الطلب على الطائرة الشبح 22ـF التي يبلغ ثمن الواحدة منها 300 مليون دولار، والمدمرة المستقبلية 1000ـ DDG التي يمكن أن تصل كلفة الواحدة منها إلى 3 مليارات دولار، والتي قلّص البنتاغون الطلب عليها من 32 مدمرة إلى 7 مدمرات.
إن خفض الطلب على الأسلحة الأحدث العالية الكلفة عرّض البنتاغون لضغوط بعض رجال الكونغرس الحريصين على إبقاء فرص العمل التي توفرها شركات صناعة الأسلحة في ولاياتهم. فهل يعوض التوجّه إلى حرب النجوم المجمع الصناعي العسكري من خساراته في مجال الأسلحة التقليدية، ومن أين ستأتي الأموال لتمويل هذه الاستراتيجيا الفضائية الجديدة؟ أم طرح مثل هذه المشاريع قبيل انتخاب نصف أعضاء الكونغرس في أواسط الشهر المقبل هو استرضاء للمجمع الصناعي العسكري وشركاته العملاقة؟
إن المزيد من تخصيص الأموال للبنتاغون يعني إما ارتفاع عجز الموازنة الذي بلغ حوالى 415 مليار دولار للسنة الجارية، وإما خفض الإنفاق الجاري، وخاصة الإنفاق الاجتماعي، ما يفاقم نمو الفروق الطبقية واتساع نطاق الفقر، ويهدد السلم الاجتماعي. ومن الملاحظ أن نمو هذه الفروق الناتجة من السياسات الليبرالية الجديدة، بدأت نتائجه بالظهور في ارتفاع معدلات الجرائم ونمو الصراع الطبقي، وإعادة الحياة إلى العمل النقابي بغية تمكّن الطبقة العاملة من الدفاع عن مداخيلها الحقيقية الآخذة في التدهور.
ويبقى السؤال الأساسي: إلى متى تستطيع الولايات المتحدة الاندفاع في مغامرات إمبريالية جديدة في الوقت الذي تتردى فيه قدراتها الاقتصادية، وتنزل بها الهزائم العسكرية والسياسية في العديد من دول العالم؟ وإلى متى يمكنها الدفاع عن هذا النظام العالمي الذي أنشأته، والذي بات لا يتفق إطلاقاً مع موازين القوى العالمية الجديدة والسريعة التحول اقتصادياً وسياسياً؟
أفلا تبدو الاستراتيجيا الأميركية الجديدة المعنية باحتكار الفضاء واستعماله في إطار الهيمنة على العالم أحلام صيف لا تتفق مع موازين قوى هذا العصر؟
* مفكر لبناني