عامر ملاعب
كان أحد الزعماء اللبنانيين يعبّر عن سخطه تجاه إسرائيل، فقط لأنها تدفع بأبناء الجنوب إلى النزوح نحو بيروت والتسبب باكتظاظ سكاني ونمو الضواحي.
الضاحية، عود على بدء، دماء الأبرياء تراق هدراً ليس بفعل التدمير الاسرائيلي فقط، بل بفعل احتكاك مع القوى الأمنية اللبنانية (بغض النظر عن الأسباب والدوافع والمسؤوليات). هل سكان الضاحية، أو الضواحي، جنوبيةً كانت أو شماليةً، يتمتعون بجينات خاصة تدفعهم الى هواية القتل وافتعال المشاكل والاعتداء على الآخرين وكل أعمال السلب والنهب والخروج على القانون أم هم من طينة البشر لديهم مشاعر وأحاسيس وكرامة إنسانية؟
على ما يبدو أن يوم أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير، والمساحة الإضافية التي منحنا إياها إلى متصرفية جبل لبنان كأراض زراعية خصبة توسع من الرقعة الجغرافية للدولة المستحدثة حتى تتمكن من العيش، لم يكن في حسبانه حينها أن مارد هذه المحافظات الجديدة سيخرج من القمقم، أو أن تعي هذه الفئات مصالحها، وتشكل ضغطاً أو خطراً ما على المركز.
جاء الإنذار في منتصف السبعينيات بسبب الواقع المأساوي الخصب، والمناخات الخارجية المحيطة، والعدوان الصهيوني المتكرر، والحرب الأهلية الشرسة، جميعها أدت الى تغير ديموغرافي كبير على المستوى اللبناني.
بعد عام 1990 ومع نهاية الحرب وبدء مشروع الإعمار، تكررت عبارات فضفاضة، فاقعة وسطحية، يطلقها عدد من المنظّرين عن الضاحية باعتبارها خارج الدولة ولم يطرح الموضوع مرةً من وجهة نظر اقتصادية اجتماعية عميقة من السياسيين حتى يمكن تشخيص الداء بشكل فعلي وحقيقي. فهل يجرؤ اليوم أي قيادي لبناني من هؤلاء المنظّرين، ليلاً ونهاراً، لقيام الدولة والمؤسسات، على أن يقوم بتحديد الأسباب الرئيسية للمشكلة وسبل معالجتها؟
دولة الطائف حملت عنوان الإعمار، بمفاهيم دولة 1943: الإنماء غير المتوازن، تمركز أشد في العاصمة، إهمال أطرافها وبقية المناطق، وانتهاج السياسات نفسها التي أدت الى زيادة الضغط على الضواحي. ويمكن تلخيصها بالآتي:
ــ تركّز الإعمار في وسط العاصمة وبكلفة عالية جداً.
ــ إهمال متعمّد للقطاعات الإنتاجية (زراعة، صناعة..) عبر موازنات تلحظ لها اعتمادات بنسب ضئيلة جداً، بعضها يقلّ عن 1% من إجمالي الموازنة العامة. إضافةً الى عدم وجود قروض ميسّرة وتسهيلات مالية للنهوض بها.
ــ سياسة الأجواء المفتوحة والأسواق المباحة للاستيراد (اتفاقات مجحفة غير مدروسة مع السوق العربية المشتركة وغير متكافئة و«سرية» مع الاتحاد الأوروبي...) وغياب الحماية يؤدي الى إغراق الأسواق.
ــ ارتفاع المديونية العامة على حساب الفقراء مقابل خدمة أصحاب رؤوس الأموال (فوائد سندات الخزينة مثلاً..).
ــ إهمال فكرة دولة «الرعاية الاجتماعية» ومحاربتها، واستبدالها بدورٍ أمني، فتحوّل الأمن الاجتماعي إلى «أمن» على المجتمع.
ــ تلزيم المناطق الى زعمائها، بتعبير أوضح فديرالية طائفية مقنّعة.
ــ قرارات اعتباطية تذرّ الرماد في العيون، منها مثلاً توزيع اللوحات العمومية في شكل عشوائي (42 ألف لوحة) حوّلت العديد من المزارعين الى سائقي أجرة ودفعتهم الى السكن في أقرب نقطة من المدينة للعمل طمعاً في الكسب المادي والضمان الاجتماعي.
ــ الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب.
ــ المنظومة الثقافية الاستهلاكية والنمط الاقتصادي الزائف الذي يعيشه المجتمع اللبناني يغريان بالسكن والاقتراب من المدينة مركز «الرفاهية».
ــ حاجة الإعمار في المركز الى اليد العاملة.
ــ مخالفة وثيقة الوفاق الوطني في الطائف لجهة عدم تطبيق مبدأ الإنماء المتوازن سواءً على مستوى المناطق أو القطاعات.
ــ النظام السياسي الناتج من طبيعة التركيبة الهشّة والمتفسّخة يؤدي حتماً الى آثار سلبية تنعكس على واقع حياة الناس، وأبسط الأمثلة قانون الانتخاب المرسوم دائماً على شكل القادرين والحاكمين مصادري التمثيل الطوائفي وهادري الأموال العامة.
هذه بعض النقاط التي أمكن تلخيصها، وهي حتماً ستؤدي الى نتائج سلبية يصعب تعدادها ببساطة ولكن الإضاءة على بعضها النافر يفيد في الإجابة عن السؤال الرئيسي ويمكن بعجالة تلخيص أهمها:
ــ نشوء وقائع اجتماعية وديموغرافية جديدة تنبئ بوقائع أخرى لاحقة لاختلاف الوافدين شكلاً ومضموناً إلى محيطهم الجديد (تفاوت طبقي، اختلاف مذهبي، مشاكل اجتماعية معقّدة...).
ــ توسع عمراني عشوائي هائل حول بيروت، وخاصةً الضاحية الجنوبية ومعظمه في شكل غير قانوني، والشرعي منه إعمار تجاري لا يتمتع بمواصفات مثالية.
ــ تدمير عنيف للطبيعة، ضغط على الموارد وارتفاع نسب التلوث.
ــ التوسع حتى خارج الضواحي المتعارف عليها لينشأ ما يمكن تسميته ضواحي الضواحي (الشويفات، سن الفيل، برج حمود ....).
ــ المزيد من الإهمال في الأرياف والأطراف والنزوح، وبالتالي المزيد من الفقر والتراجع الاقتصادي.
ــ تحولات اجتماعية طبقية أدت وتؤدي الى انزياح في طبيعة تركيب المجتمع، والمفارقة في لبنان أن الطبقة هي الطائفة الى حدود بعيدة، وأي تغيير يحمل مفاعيل دقيقة ويترك آثاراً جانبية.
ــ حجم المشاكل فوق طاقة البلديات التي هي أصلاً منتخبة من المسجّلين لا المقيمين، وترث مشاكل متراكمة.
ــ غياب أي مخطط توجيهي (كما في كل لبنان) والدولة ليست حاضرة حتى بالحد الأدنى مع تخبّط تنموي. هذه الوقائع النظرية تؤكدها أرض الحقيقة، فالنزوح من كل الطوائف والشرائح والمناطق، والمدقق يكتشف تنويعة طائفية حيث المعلن والمعروف لون واحد، يعني الجامع بين هؤلاء هو الحالة المعيشية. متى يُفتح ملف الإنماء المتوازن في شكله الصحيح والحقيقي، وأي واقع سينتج من فكرة خيالية تقول بانطلاق الإنماء من الأرياف وفرض النزوح المعاكس، واعتماد قانون انتخاب على أساس النسبية والتصويت في مكان الإقامة؟
في هذه العجالة وعلى وقع الدماء كما في كل مرة، يتحمّل الفقراء وضحاياهم مسؤولية كل المصائب، وعجلة التاريخ لا تدور إلا على رؤوسهم، هذه الاستنتاجات الأولية البسيطة، تخلق أسئلة أكثر مما تعطي أجوبة. معالجة جذور هذه القضية ربما تفيد مجاناً وبسرعة دعاة تجفيف مصادر المقاومة، وتفكيك حزب الله والقضاء على هذه الظاهرة «المزعجة»، فأسرعوا الى تنفيذها وإلا فإن «الدويلات اللبنانية» مهددة من «الانزياح البشري» القادم من الأطراف نحو المركز. إلى أين المفر؟ ما هو الحل؟