وليد شرارة
الحروب المتلاحقة التي شنتها الولايات المتحدة على أعداء شديدي الضعف منذ نهاية الثنائية القطبية ( بنما، العراق، صربيا، أفغانستان)، والتي كانت بمثابة عمليات استعراض عضلات بهدف ترويع وتطويع بقية دول العالم، أعداءً وخصوماً وأصدقاء، لم تسمح لها ببلوغ جميع الأهداف المذكورة بشكل فعلي. لقد نجحت في المزيد من استتباع حلفائها العرب وفرضت على دول أوروبية رئيسية التخلي عن بعض أبرز ثوابت سياساتها الخارجية والعودة الى «الشراكة» من موقع أدنى معها. لكنها استفزت الصين وروسيا ودفعتهما الى التنسيق حول أكثر من ملف في مواجهتها والأهم، أنها عجزت عن القضاء على الحركات والأنظمة التي تقاوم سياساتها وغزواتها العسكرية. لقد فقدت واشنطن، حسب رونو جيرار، أحد كبار مراسلي صحيفة الفيغارو والمؤيد بحزم للسياسة الأميركية، «قدرتها على الردع وهيبتها وصدقيتها السياسية». السبب الرئيسي لذلك، برأيه، هو تورطها في «المستنقع» العراقي وتداعيات هذا التورط على هيبتها. وهو يرى أن الفترة التي سبقت الحرب الثانية على العراق عام 2003 شهدت وصول «قدرة الردع» الأميركية الى أوجها. فقد أبدى العراق، من خلال وسطاء، استعداده لقبول جميع الشروط الأميركية وعرضت ايران، من تلقاء نفسها، تعليق تخصيب اليورانيوم كبادرة حسن نية تجاه الولايات المتحدة. غزو العراق، والمقاومة الشرسة والمتصاعدة التي تواجهها القوات الأميركية هناك، أديا الى تغيير جوهري في المشهد الإقليمي والدولي. أعداء الولايات المتحدة باتوا أكثر جرأة على تحديها و«المجتمع الدولي» دون الخوف من عقاب قاس. بالطبع، يعتبر جيرار أن هذا التطور كارثي وينذر بعواقب وخيمة بالنسبة إلى أمن واستقرار العالم «الحر». يعكس مقاله وجهة نظر قطاعات لا يستهان بها من النخب السياسية الغربية، الأوروبية والأميركية، التي تراقب بقلق شديد الانحدار البطيء لكن المستمر للإمبراطورية الأميركية. قد تقدم هذه الأخيرة على مغامرة عسكرية جديدة ضد ايران أو بلد آخر في محاولة لوقف الانحدار واستعادة الهيبة المفقودة لكن مثل هذه المغامرة ستسرع الانحدار.
لقد سمحت ثورة المعلومات والاتصالات وتطبيقاتها في المجال العسكري، أو ما سمي بالثورة في الشؤون العسكرية، مع ما أدت اليه من تطور مذهل في التكنولوجيا العسكرية وفي الأسلحة الذكية ومن تفوق نوعي للولايات المتحدة على بقية دول العالم، باستسهالها اللجوء إلى الحرب لفرض هيمنتها على بقاع جديدة من المعمورة. بيد أن مقاومة الشعوب، عبر تكبيد الغزاة خسائر متزايدة ومنعهم من تحقيق الأهداف المعلنة لحروبهم، عادت لتفرض وقائع جديدة. هذا ما يعتقده هوارد زين، المؤرخ والمفكر الأميركي المعروف والمعارض لسياسات بلاده الاستعمارية. فهو يؤكد أن الدرس المهم الذي ينبغي استخلاصه من التجربتين العسكريتين الأخيرتين للولايات المتحدة واسرائيل في المنطقة هو «أن العمليات العسكرية التدميرية والواسعة النطاق ليست فقط مدانة أخلاقياً بل هي عاجزة عن تحقيق الأهداف المعلنة للذين يشنونها». ويشير زين الى أن هذه الحقيقة قد تدفع صناع القرار الى اعادة النظر في خياراتهم وأن تصعيد الضغط الداخلي على هؤلاء من الحركات المناهضة لسياسات الحرب والعدوان في هذا السياق قد يسهم في تسريع نهاية ما يسميه «حقبة القتل الجماعي الطويلة».
خلفيات الكاتبين ومواقفهما متناقضة لكنهما يتقاطعان عند توصيف مشترك للوضع الدولي، يجمع عليه الكثيرون في الغرب وفي مناطق أخرى، وهو أن العالم يدخل في مرحلة العجز الأميركي. وحدها النظم العربية والنخب الليبرالية «المستنيرة» ترفض رؤية هذه الحقيقة والخروج، انطلاقا منها، بالخلاصات التي تفرض نفسها.