محمد شري *
منذ عملية الوعد الصادق ومن ثمّ وعد السيد نصر الله بالنصر الآتي، تكرر الحديث عن صفة الصدق التي تلازم كلام السيد حسن نصر الله والتي أقرّ بها العدو قبل الصديق حتى في أشد الظروف حراجة وخلال العمليات الحربية القاسية.
الصدق هذه الصفة التي امتاز بها أمين عام حزب الله بمقدار ما هي صفة إنسانية وأخلاقية وشخصية مميزة، صعبة في أيامنا حتى في مجال الحياة الشخصية العامة فهي تصبح أصعب وأقرب الى المستحيل في المعترك السياسي الى حد اعتبارها صفة سلبية بمعنى أن السياسة تتطلّب أعلى درجات الدهاء والمناورة وتجنّب الصدق والصدقية.
إلى أي مدى كان الصدق مفيداً وإيجابياً في مسيرة حزب الله السياسية ولا سيما بعد دخوله معترك المشاركة في السلطة التنفيذية اللبنانية؟
من الواضح أن التزام أمين عام حزب الله الصدق في مواقفه وفي علاقاته فوّت عليه العديد من الفرص لتحقيق مكاسب وأهداف وخاصة على حساب الآخرين، وأن حزب الله بهذه الصفة دائماً ما يضع نفسه في وضع تفاوضي ضيق لا يتيح أي مجال للمناورة كما هي حال الأطراف الأخرى بمعنى أن حزب الله مثله مثل البائع الصادق الذي يعرض بضاعته في السوق بأمانة وبسعر ثابت وبأرباح متواضعة جداً فلا يترك مجالاً للمفاصلة والتشاطر للحصول على سعر أبخس وأرخص فيتهم بأنه بائع متشدد ومتصلّب لا يساير الزبائن الذين يريدون معاملة خاصة فيما التجار الآخرون يعرضون بضائعهم أعلى بكثير من ثمنها ثم يفاصلون ويعرضون تنزيلات تحفظ لهم نسبة مهمة من الأرباح مع شعور الزبون بأنه نجح في خفض السعر.
يُذكر عن الزعيم الراحل كمال جنبلاط مذكراته المطلبية التي تبدأ بحرب فيتنام وتنتهي بتعيين موظف في إحدى الإدارات الرسمية التي هي بيت القصيد، فيما حزب الله يبادر تلقائياً الى خفض سقف مطالبه الى الأدنى مباشرة قبل الولوج في أي حوار أو سجال أو تفاوض فتضيق مساحة التنازلات والمساومات الممكنة ويتيح لمنافسيه ومعارضيه أن يتهموه بالتصلب والتشدد.
خير مثال على ذلك طروحات الحزب الأخيرة ومطالبته بحكومة وحدة وطنية أكثر ما يطلب فيها الثلث المعطل مع حلفائه في كتلة الإصلاح والتغيير وكتلة الرئيس نبيه بري مع أنهم يمثلون أكثر من 40 في المئة من أعضاء المجلس النيابي وأكثر من 60 في المئة من أصوات الناخبين اللبنانيين في الانتخابات الأخيرة.
حزب الله وجمهوره كما سائر اللبنانيين الذين دفعوا ثمناً باهظاً وباهظاً جداً بفعل العدوان الهمجي العالمي عليه بهدف استئصاله كلياً، والذي شكل الانقلاب السياسي عليه من شركائه في الحكومة وفي الانتخابات النيابية أحد أهم مبررات هذا العدوان السياسية والإعلامية الضاغطة من خلال تبنّي حكومة العدو والإدارة الأميركية شعارات ثورة الأرز ورموزها.
حزب الله الذي خرج من هذه الحرب منتصراً باعتراف الجميع بما يشبه الأعجوبة وبدل أن يعمد الى ترجمة الانتصار بالدعوة الى المطالبة بمحاسبة المتواطئين والمتخاذلين والمراهنين على العدوان لنزع سلاح المقاومة، وبدل أن يرفع سقف مطالبه بالدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة على أساس قانون انتخابي متوازن ونهائي لبناء دولة حقيقية قادرة وفاعلة، عمد الى خفض سقف مطالبه الى الحد الأدنى الذي لا مجال معه لأي تراجع من خلال الدعوة إلى حكومة وحدة وطنية ليس بالشراكة المتساوية أو المنسجمة مع الأحجام الشعبية والسياسية بل بالحصة الدنىا التي تحفظ لفريق الأكثرية النيابية أغلبية مريحة في مجلس الوزراء إضافة إلى رئاسة مجلس الوزراء أيضاً، هذا الفريق الذي يتمادى في استغلال هذا الوضع لرفض هذا الطلب واعتباره تشدداً وتطرفاً وتهديداً فيما هو يصب في مصلحة فريق الأكثرية ويبقيها في موقع الأفضلية في السلطة والإدارة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعمد فيها حزب الله إلى هذا التواضع والصدق، إذ سبق لأمين عام حزب الله أن بادر بنفسه من دون أي ضغط أو مقابل، أن طرح موضوع سلاح المقاومة على طاولة الحوار فيما كان هذا الموضوع خارج سياق أي حوار باعتبار أن المقاومة حق مقدس ومقر من خلال الطائف ومن خلال البيان الوزاري وأدبيات الدولة ومؤسساتها كافة. لم يكتف السيد نصر الله بهذا الأمر بل وضع سقفاً لهذا السلاح في إطار الاستراتيجيا الدفاعية للدولة، مُخرجاً إياها من أي إطار هجومي ومخرجاً إياها من أي وظيفة إقليمية لها علاقة بفلسطين أو سوريا أو إيران أو أي جهة أخرى وبتنسيق كامل مع الجيش اللبناني. والسؤال ماذا بقي لحزب الله بعد هذه الأطروحة من تنازلات ليقدمها في الحوار، هذه الصيغة التي نفهمها كصيغة نهائية ونتيجة للحوار لا مقدمة له، كما حصل في محصلة الحوار الثنائي مع التيار الوطني الحر الذي أثمر تفاهماً نموذجياً في إطار حوار لبناني ــ لبناني حقيقي وفي إطار سلة وطنية شاملة.
أكثر من ذلك لم يرهن حزب الله مواقفه حيال القضايا المطـــــــــلوبة من جانب فريق الأكثرية بما يقابلها حيال قـــــــــــضاياه الجوهرية وفي مقدمها سلاح المقاومة، إذ وافقهم على العلاقات الديبلوماسية مع سوريا وتحديد الحدود معــــــــــــها والمحكمة ذات الطابع الدولي من دون أن تكون مرهونة بصفقة شاملة وبقيت قضايا رئاسة الجمهورية والحكومة وسلاح المقاومة معلقة. يعني لم يقر فريق الأكثرية أي مطلب من مطالب حزب الله فيما أخذ هذا الفريق الحكومة بأكثريتها المطلقة وانقلب على البيان الوزاري وتمادى في علاقاته الدولية وتحديداً الأميركية والفرنسية، واستمر في مقاطعة رئاسة الجمهورية وفي ملاحقة سلاح المقاومة والتضييق عليها بكل الوسائل الداخلية والخارجية.
مشكلة حزب الله بالطبع ليست في كونه صادقاً ومتواضعاً، بل مشكلته أن فريق 14 آذار يستغل هذا الصدق ويتعامل معه باعتباره ضعفاً أو سذاجة وكلا الأمرين غير صحيح.
بالـــتأكيد ليست هذه المــــــــــــقالة دعوة إلى حزب الله وقائده للتخلّي عن فضيلة الصدق والصدقية، بل هي دعوة إلى فريق 14 آذار علّهم يرتفعون الى مستوى هذا الصدق وهذا التواضع وهذا الخُلُق غير المعهود في السياسة اللبنانية.
ولعل كلام الإمام علي خير معبّر بقوله الشهير:
وما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس.
* إعلامي لبناني