توفيق المديني *
عقب نهاية الحرب الباردة، وانفجار الاتحاد السوفياتي ثم موته، تمت إعادة بناء العولمة الرأسمالية الليبرالية تحت حماية الولايات المتحدة الأميركية وهيمنتها، إذ سعت هذه الأخيرة الى إعادة بناء «النظام الدولي الجديد» في نطاق هذه العولمة، وعلى شاكلتها ومثالها، والمستند إلى إيديولوجيا الليبرالية الأميركية الجديدة التي أفرزتها الثورة المحافظة في الغرب بقيادة ريغان، تاتشر وبوش، التي تهدف الى قتل الإنسان في عالم الجنوب، في تناقض كلي مع الايديولوجيا الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية المنبثقة من الثورة الديموقراطية البورجوازية التي ترمي الى تحرير الإنسان سياسياً وحقوقياً.
بيد أن النظام الدولي المتجانس، كما يقول ريمون آرون في كتابه الكبير: «سلام وحروب بين الأمم» (الصادر عن دار كالمان ديفي، 1984)، هو ذاك النظام الذي تنتمي فيه «الدول الى النموذج عينه، وتستجيب للمفهوم عينه لسياساتها». وفي الواقع، مع بداية القرن الحادي والعشرين، وعلى نقيض النبوءات الساذجة لفرانسيس فوكوياما عقب انهيار جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة عام 1989، ظل النظام الدولي غير متجانس، أي إن «الدول هي منظمة حسب مبادئ أخرى، وتتبنّى قيماً متناقضة».
ومنذ أن فرضت الولايات المتحدة الأميركية هيمنتها بإطلاقية على النظام الدولي الجديد أحادي القطبية، على الأقل مؤقتاً، فرضت قناعة على حكومات العالم وشعوبه بدور حكومة الولايات المتحدة الأميركية في فرض الآلية الجديدة للنظام الدولي الذي تريد فرضه في الشرق الأوسط، من خلال مواجهة العراق بقوى دولية واسعة وقوية لتدميره. وتقدم لنا في منطقة الشرق الأوسط أحداث العراق الدامية، منذ نحو ثلاث سنوات من الاحتلال الأميركي لهذا البلد، صورة مسبقة عما سيكونه مستوى العنف فيما إذا قيّض للإمبراطورية الأميركية أن تصطدم بإيران الطامحة الى امتلاك السلاح النووي، واندلاع حرب إقليمية ذات بعد عالمي يكون مسرحها الشرق الأوسط.
وهكذا بتنا اليوم نحتاج الى استراتيجيا أميركية جديدة للخروج من العراق بعد إخفاق استراتيجيا النصر التي اعتمدتها إدارة بوش المستوحية فلسفتها في إدارة الأزمات الدولية والإقليمية من إيديولوجيا المحافظين الجدد. فقد اعتمد هؤلاء الحرب الاستباقية مذهباً لهم، في ظل نشوة انتصار الولايات المتحدة الأميركية عندما انهارت الشيوعية عام 1989، وصدقوا أن العالم تغيّر جذرياً تغيّراً لا رجعة فيه، وافترضوا أن التاريخ عينه انتهى، وأن العولمة الرأسمالية الديموقراطية انتصرت إذ استطاعت الاجابة عن كل الأسئلة الكبرى، وأنها باتت القائد بلا منازع للنظام العالمي الجديد أحادي القطبية، وأن الناس العائشين في ظله، سيستكينون الى اهتمامات دنيوية: بعضهم سيعمد الى جمع الثروات، وبعضهم الآخر سيلجأ إلى الاستهلاك.
ويشكل الملف النووي الإيراني تحدياً جديداً للنظام العالمي الجديد أحادي القطبية، إذ إنه حتى لو نجحت الولايات المتحدة في تحويله الى مجلس الأمن فإن العقوبات التي ستفرض على إيران لا تضر بالفعل بالأعمال النووية الايرانية، بل تضر بالشعوب الإيرانية، وهذا ما سيزيد تقوية حدة العداء لأميركا. يرتكب الغرب خطأ جسيماً، إذا اعتقد أن الشعوب الإيرانية هي الآن ناضجة لكي ترتمي في أحضان الغرب. فمع نظام الملالي، أو من دونه، لديها فكرة كبيرة عن عظمة فارس وتاريخها.
إن امتلاك السلاح النووي أصبح شعاراً وطنياً، زد على ذلك أن البلد محاط بدول تمتلك أسلحة نووية (إسرائيل، الهند، باكستان). ويعتقد المخططون الاستراتيجيون في طهران أن الولايات المتحدة الأميركية أضحت ضعيفة منذ مغامرتها العسكرية في العراق. فهم لا يخشون هجوماً عسكرياً أميركياً أو إسرائيلياً، يمكن أن يتحول الى فشل ذريع، والعقوبات الاقتصادية تتطلب فعاليتها تشكُّل جبهة عالمية داخل الأمم المتحدة.
في شكل عام خفف الرئيس جورج بوش كثيراً من الغطرسة التي طبعت ولايته الأولى، وهذا عائد الى تزايد الانتقادات الأميركية الداخلية من جانب الحزب الديموقراطي والصحافة الأميركية لسياسته الخارجية التي تستبعد الحلفاء والشركاء، وتسعى جاهدة الى إعادة تشكيل العالم وفق الرؤية الأحادية القطبية.
والولايات المتحدة الأميركية لا تعاني مأزقاً في العراق أو أفغانستان فحسب، بل إن التطورات التي أسفرت عنها العملية الانتخابية في أميركا اللاتينية، مسألة جديرة بالاهتمام، إذ إن اليسار هو الذي يحقق انتصارات في الانتخابات، وهذا ولا شك يعزز المحور المناهض للولايات المتحدة الأميركية في القارة الجنوبية. وعلى الرغم من أن بلدان أميركا اللاتينية اعتنقت نهج الليبرالية الاقتصادية في سياق العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تقودها واشنطن، زادت العولمة شعوبها فقراً على فقر، وفاقمت عندها التفاوتات الاجتماعية الحادة، عوض ان تنتشلها من واقعها المتردي الذي أوقعتها فيه الديكتاتوريات العسكرية بعد مرحلة الاستقلال.
وحدها الصين، الآن، التي أصبحت القوة الاقتصادية الرابعة في العالم، وتمتلك الوسائل الكافية لمنافسة الولايات المتحدة الأميركية التي تخلت عن هديها الى الديموقراطية. فمسألة تايوان، والموازنة العسكرية الضخمة للصين، وقدرة الصواريخ الصينية العابرة للقارات على تهديد نيويورك، أو المشاريع النووية لكوريا الشمالية، هذه المسائل مجتمعة تمنع من أن يكون قرار السلام في هذه المنطقة من العالم حكراً على الولايات المتحدة الأميركية بمفردها.
وهكذا، هل نخشى فعلاً من رؤية تزايد عدم تجانس النظام الدولي، بدلاً من أن يتناقص. من هنالك نستنتج العودة الى نوع من حرب باردة جديدة. في الوقت الحاضر، تتبع الصين وروسيا نهجاً ديغولياً في السياسة الدولية (الاستقلال الوطني) ولكنه مجرد من كل محتوى إيديولوجي، على نقيض الحرب الباردة التاريخية. لا روسيا ولا الصين تريدان مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، فضلاً عن أنهما لا تعتقدان أنهما تحققان مكسباً استراتيجياً في حال امتلاك إيران السلاح النووي. بيد أن روسيا والصين تريدان إقامة علاقات جيدة مع هذا البلد، وهما في نظرهما، لا يمثّل نظام آيات الله مشكلة بوصفه كذلك، إذا أبدى تعاوناً.
إن الرهان الحقيقي للصراع الدائر الآن، هو الاعتراف الفعلي بعدم تجانس النظام الدولي. وفي الوقت الحاضر هذا يتضمن القبول بالتفاوض مع طهران حول الأمن الإقليمي في مجمله. وإذا رفضت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها التسليم براغماتياً بهذا التغاير، فإنها تخاطر بفقدان السيطرة على الأحداث في منطقة الشرق الوسط، وفي مناطق أخرى من العالم، مع تحمّل النتائج التي يصعب حسبانها.
* كاتب تونسي