عصام نعمان *
الولايات المتحدة تعاني في العراق. إدارة بوش أقرّت أخيراً بالمعاناة. ليس المعاناة فقط بل الحيرة الممزوجة بالمرارة. ماذا يجب ان تفعل؟ تعلن جدولاً زمنياً للانسحاب أم تضع خطة يجري تنفيذها مدى سنوات عدّة، آخذةً في الاعتبار صراعها المرير مع إيران؟ جورج بوش عقد اجتماعات على أعلى المستويات، شارك فيها نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد وجنرالات هيئة الأركان المشتركة لجيوش البر والبحر والجو. سبقت ذلك ورافقته وأعقبته مداولات معمّقة للجنــة بيكر ــ هاملتون التي كان ألّفها الكونغرس للنظر في ما آلت إليه الحرب من تعثّر وفشل وضياع. ليس ثمة قرارات بعد في شأن ما يجب فعله أو عدم فعله. حتى لو جرى اتخاذ قرارات فإنها لن تعلن قبل الانتخابات النصفية في منتصف الشهر المقبل لئلا تسيء إلى حظوظ مرشحي الحزب الجمهوري.
في هذه الأثناء تدور مناقشات حارة في أروقة الكونغرس وفي مؤسسات الأبحاث والجامعات والمجلات المتخصصة ووسائل الإعلام. من ذلك كله يمكن الاستنتاج بأن الشبكة الحاكمة (الإستبلشمنت) على مفترق طرق استراتيجي، وأن مسألة الخروج اللائق من العراق مرتبطة بما أضحى أهم وأخطر: مسألة ما يجب فعله لإيران أو في إيران. إنها، في الواقع، مناقشة جدية ومفتوحة في توفير موارد الولايات المتحدة من الطاقة (النفط والغاز) خلال القرن الجاري. في ثنايا هذه المناقشة تتكشّف مطامع الولايات المتحدة، كما تبرز الروادع الإقليمية والدولية التي تحدّ من فعاليتها. وليس من قبيل المغالاة القول إن القرارات الأساسية التي ستتخذها إدارة بوش في هذا المجال ستتأثر بها أميركا كما ستتأثر دول العالم.
لعل السؤال الأول الذي يتطلب جواباً في المناقشات الدائرة حالياً هو: أين يقتضي، في الشرق الأوسط الكبير، ان تبقى أميركا بقواعدها العسكرية، وهل في مقدورها ان تفعل ذلك؟ غالبية الخبراء الاستراتيجيين تميل إلى الإقرار بصعوبة البقاء في العراق وإن كانت لا تحبّذ خروجاً مبكراً منه. غير أنها تقرّ في الوقت نفسه بأن خطة الخروج ترتبط بما يجب أن يكون عليه موقف الولايات المتحدة من إيران. وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر أوحى بأن اللجنة التي يرأسها توصي بضرورة التفاوض مع إيران وسوريا في هذا الخصوص. لكن للتفاوض أهدافاً، فما هي أهداف واشنطن؟ ستحاول إدارة بوش، على الارجح، التوصل الى ما يرضيها ويرضي أوروبا على صعيد الحدّ من قدرة طهران على تخصيب اليورانيوم وبالتالي على امتلاك قدرة نووية. ليس هذا فحسب بل الحدّ أيضاً من تطور إيران كقوة إقليمية مركزية. إذا تعذّر على واشنطن بلوغ هذا الهدف ــ وهو التخمين الراجح ــ فإنها ستعاود التحضير لشن الحرب على إيران بغية تدمير قاعدتها الصناعية وبنيتها التحتية وإعادتها عقداً أو عقدين الى الوراء.
في انتظار ما ستنتهي إليه المفاوضات مع إيران (وسوريا؟)، اتخذت إدارة بوش قراراً بتأجيل الحرب. مدة التأجيل لن تتجاوز السنتين، وهما ما تبقّى لبوش في الرئاسة، ذلك أنه مقتنع بأنه مؤهل أكثر من غيره لاتخاذ قرارات استراتيجية خطيرة، وان مصالح الولايات المتحدة النفطية في الشرق الأوسط هي من الخطورة بحيث أضحت قضية وطنية تتجاوز الاصطفاف الحزبي في الكونغرس مهما كانت نتيجة الانتخابات.
في هذا السياق، يرجّح بعض الخبراء أن تسعى إدارة بوش الى التوصل في المفاوضات مع إيران وسوريا إلى صفقة متكاملة حول العراق وفلسطين ولبنان. في العراق، ستعترف واشنطن بنفوذ إيران في محافظات الجنوب، وستحاول موازنته بدور نافذ لسوريا في محافظات شماله الغربي ووسطه شريطة ان تتخلى دمشق عن دعم «حماس» وسائر منظمات المقاومة الفلسطينية المعادية للاعتراف بإسرائيل ومصالحتها. وستحاول واشنطن ضمان خروج سوريا من لبنان نهائياً وعدم معاداتها للطبقة السياسية التقليدية الساعية إلى تدويم تحكّمها به. غير ان احتفاظ سوريا، تاريخياً، بهامش واسع من المناورة حيال لبنان وبين الفلسطينيين يثير مخاوف الفئة الحاكمة في لبنان ولدى أركان منظمة التحرير. في هذا الإطار يمكن تفسير عودة السعودية الى مغازلة نائب الرئيس السوري الأسبق عبد الحليم خدام وحليفه زعيم الإخوان المسلمين علي صدر الدين البيانوني وترتيب مقابلة لهما مع العاهل السعودي، وتسريب أخبار عن احتمال استقباله رفعت الأسد، نائب الرئيس الأسبق وشقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد. فالرياض، كما واشنطن وربما بالتنسيق معها، لا تريد عودة سوريا إلى لبنان.
هل تنجح واشنطن والرياض في مساعيهما حيال أنظمة بلاد الشام؟ ثمة روادع وازنة في هذا المجال ليس أقلها تنامي نفوذ منظمات المقاومة، بل روح المقاومة في بلاد الرافدين وبلاد الشام. ألم تسجل المقاومة اللبنانية انتصاراً مدوّياً بعدم تمكينها إسرائيل من تحقيق أغراضها في الحرب الأخيرة، وبنجاحها في هتك هيبة إسرائيل الردعية ودحر «الجيش الذي لا يقهر»؟
إن إخفاق واشنطن المحتمل في التوصل إلى صفقة متكاملة مع خصومها ومنافسيها في إيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين قد يحملها على التفكير جدياً في تعجيل تنفيذ الخيار الآخر وهو توجيه ضربة استباقية تدميرية واسعة لإيران. غير ان اتخاذ قرار حاسم من هذا الطراز يتوقف على مدى قدرة أميركا وأوروبا على دفع كلفته الباهظة. فإيران في إمكانها، على ما يبدو، تدمير صناعة النفط، إنتاجاً ونقلاً وتسويقاً، على امتداد المنطقة من سواحل البحر الأحمر غرباً إلى سواحل الخليج وبحر العرب شرقاً، وصولاً الى سواحل بحر قزوين شمالاً. هذه العملية الثأرية ستؤدي إلى زيادة أسعار النفط إلى حدود 150 دولاراً للبرميل الواحد، فهل في وسع الاقتصاد العالمي، وخصوصاً اقتصادات أميركا وأوروبا واليابان، تحمّل هذه الزيادة الهائلة؟ ثم هل في وسع أميركا تحمّل خسائر حرب لن تكون تقليدية أو هيّنة مع إيران بعدما ثبت في الحرب الأخيرة بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية والأسلحة الصاروخية البالغة الفعالية التي استخدمها المقاومون اللبنانيون ان لدى إيران (وسوريا؟) مستوى تكنولوجياً متقدماً، وبالتالي أسلحة صاروخية بعيدة المدى وبالغة الفعالية، تجعل من تحقيق كل من الولايات المتحدة وإسرائيـل أغراضهما العسكرية والسياسية أمراً بالغ الصعوبة وباهظ الكلفة؟
غير ان إدارة بوش لن تتوانى عن شن الحرب على إيران إذا ما تبيّن لها ان في إمكانها ودول أوروبا تجاوز مسألة بهاظة كلفة الحرب بطريقتين: الأولى العمل على حسمها في مدة قصيرة نسبياً. الثانية، خفض آثار الكلفة المالية والاقتصادية بعدما نجحت، على ما تؤكده مصادر سياسية ومراجع اقتصادية موثوقة، في بناء احتياط نفطي استراتيجي يكفي دول الغرب واليابان مدةً لا تقل عن 18 شهراً ونيف. وهي مدة كافية لإعادة بناء منشآت النفط المدمرة في جميع أنحاء المنطقة ومعاودة تشغيلها.
الى تدمير إيران وإعادتها عقداً أو عقدين الى الوراء، ثمة غرضان آخران يغريان الولايات المتحدة باعتماد خيار الحرب في المنطقة. الأول، التحكم بعائدات النفط الفلكية في الدول العربية المنتجة للنفط والحؤول دون توظيفها في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية من طريق حمل هذه الدول على إعادة تدوير العائدات في شكل أوسع. التدوير الأوسع للعائدات يتمّ من طريق إكراه الدول ذات المنشآت النفطية المدمرة وسواها من المنشآت على اللجؤ إلى الشركات والمؤسسات الأميركية والأوروبية، كما حدث تماماً في العراق، من أجل إعادة بنائها وتشغيلها. للتدليل على مدى ضخامة العائدات والمبالغ المستهدفة لدى الدول العربية المنتجة للنفط، أشير الى مجموع مداخيل هـذه الدول من النفط في العام الجاري إذ ستبلغ 465 بليون/مليار دولار، حصة السعودية وحدها منها تزيد على 190 بليون/مليار دولار.
الغرض الثاني الذي يغري أميركا بشن الحرب على إيران هو رغبتها الدفينة في إعاقة نمو الاقتصاد الصيني، ذلك انه ينمو بمعدل قياسي يتراوح بين 8 و15 في المئة سنوياً، الأمر الذي حمل عدّة خبراء اقتصاديين أميركيين ودوليين على إطلاق تقدير مفاده ان اقتصاد الصين سيصبح الأكبر في العالم بحلول العام 2012. من المنطقي ان تحاذر الولايات المتحدة الجهر بالعمل على تحقيق رغبتها المؤذية للصين، وخصوصاً مع وجود استثمارات دولية في الصين تزيد على 60 بليون/مليار دولار، وامتلاك الصين سندات خزانة أميركية بمليارات الدولارات. غير ان واشنطن ستتجاوز هذه المحاذير إذا ما تبيّن من تدقيق حسابات هيئة الأركان المشتركة الأميركية انه في الإمكان تقصير مدة الحرب على إيران وفيها على نحو يحدّ من الخسائر التي ستتكبدها الصين، فلا تتضرر إلا بمقدار يتناسب مع مكاسب معقولة يمكن ان تحققها أميركا في هذا المجال.
ماذا عن العرب؟
بدلاً من ان تتعاون الدول العربية مع إيران على نحوٍ يخدم مصالح الطرفين بإقصاء احتمال الحرب التي تجرّ عليهما أفدح الأضرار، نجدها تحابي الولايات المتحدة وتنزلق في مخططها الرامي إلى اعتبار إيران هي الخطر الأول الذي يتهددها وليس أميركا المتحالفة مع إسرائيل التي تغتصب الحقوق العربية منذ نصف قرن.
لماذا لا تنحو مصر والسعودية منحى جمال عبد الناصر وفيصل بن عبد العزيز اللذين رفضا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تقديم الخطر الشيوعي المزعوم على الخطر الصهيوني القائم، فسلكا طريق الحياد الايجابي وعدم الانحياز بين المعسكرين المتصارعين، وصانا بذلك استقلال بلديهما وحافظا قدر طاقتهما على المصالح العربية العليا؟
قليل من الشجاعة والإرادة يا قوم!
* وزير سابق