خالد صاغيّة
يُروى أنّ تقديرات خسائر القطاع الزراعي قد فاقت، وفقاً لإحدى المنظّمات الدولية، نصف مليار دولار أميركي. يُروى أيضاً أنّ هذا الرقم لم يعجب السلطات العليا في الحكومة اللبنانية، فطالبت بخفضه. يُروى أنّ طلب الخفض المفاجئ جاء نتيجة ربط منطقيّ بين حجم الخسائر وحجم التعويضات. فحين تكون الخسائر كبيرة في قطاع ما، تكون التعويضات كبيرة لهذا القطاع. ويبدو أنّه لا أحد يرغب في رؤية تعويضات تذهب إلى القطاع الزراعي. فالزراعة «ما بتجيب مصاري»، بحسب ما ترى السلطات العليا. لذلك ارتأى المتباكون على الوطن المنكوب أنّه لا ضرورة لاصطحاب وزير الزراعة إلى مؤتمر استوكهولم، حفاظاً على التوازنات الطائفية داخل الوفد.
قيل الكثير في «جهاد» بعض أعضاء الوفد وقيامهم بواجباتهم خلال العدوان الأخير. لكن، بصرف النظر عن ذلك، فإنّ ما تتناساه السلطات العليا هو حقيقة بديهيّة، وهي أنّ المنطقة المنكوبة حقاً هي منطقة... زراعيّة. لم تُصَب المنطقة باحتراق حقول التبغ، والأشجار المثمرة، وقتل المواشي، وتضرّر صيد السمك، وحسب، لكن برزت أيضاً معضلة ديون المزارعين. فكيف سيسدّد هؤلاء ديونهم المتراكمة إذا كان الموسم لن يأتي هذا العام؟
الغريب أنّنا، أمام هول هذه الخسائر، نادراً ما نسمع شيئاً عنها في التصريحات الرسمية. يصبح الأمر أكثر غرابة حين نتذكّر كيف بدأ التباكي على الموسم السياحي مع الطلقة الأولى للحرب، واستمرّ إلى الآن. ويصبح الأمر أشدّ فظاظة حين نرى التنافس على الإعمار العقاري مفتوحاً على مصراعيه.
في ذروة التأزّم السياسي الحاصل، قد يبدو نقاش كهذا خارج الموضوع. لكنّ الواقع هو غير ذلك. فإذا كان الصراع في البلد، منذ بداية التسعينيات وحتّى اليوم، بين مشروعين يحملان أولويات مختلفة، ويرمز لهما مجازاً بهانوي وهونغ كونغ، فإنّ فريق هانوي حقّق وعوده، سواء جرّت هذه الوعود خراباً على البلد أو جلبت له عزّة ونصراً. أمّا فريق هونغ كونغ الذي يتصرّف كما لو أنّه يردّ خيارات هانوي الانتحارية، فلم يتمكّن من تحقيق أيّ من وعوده. واللافت أنّ سقوط مشروع هونغ كونغ لم ينتظر صعود هانوي. سقط منذ زمن بفعل النظرة الساذجة إلى الواقع السياسي في المنطقة، وكذلك بفعل سياسات اقتصادية لا تقلّ سذاجة.
نحن اليوم أمام فرصة إعمارية جديدة. وثمّة من يرغب في تكرار الأخطاء القاتلة. فقد بُني الاقتصاد اللبناني قبل الحرب الأهلية على أُسُس منحازة. أُسُس لم تكن بعيدة عن جعل الحرب الأهلية أكثر قابلية للوقوع. تكرّر الخطأ نفسه خلال إعادة الإعمار بعد اتّفاق الطائف. وفي كلتا الحالين، حدث ذلك تحت شعار عدم تدخّل الدولة حتّى لا تخرّب على السوق عملها. النفاق لا يدور هنا حول تزوير دور الدولة، وإذا كان تدخّلها إيجابياً أو سلبياً. النفاق هو في القول إنّ الدولة لم تتدخّل.
إنّ ما جرى لاقتصادنا قبل هذا العدوان لم يكن نتيجة سوء حظ أصابنا من «اليد الخفية» للسوق. لقد كان من فعل يد ظاهرة ينبغي ألا تبطش بنا مرّتين.